أورنا مزراحي ويورام شفايتسر – باحثان في معهد دراسات الأمن القومي
اعتذار سعد الحريري في 15 تموز/يوليو عن تأليف الحكومة في لبنان يعكس الدوامة التي تعيشها الساحة السياسية في هذا البلد. يأتي ذلك على خلفية الضائقة المتفاقمة التي يعانيها السكان في مواجهة أقسى أزمة اقتصادية شهدها لبنان، والتي تتسبب بصعوبات معيشية ونقص حاد في السلع الاستهلاكية الأساسية: كالغذاء والكهرباء والوقود والمياه والدواء، بالإضافة إلى غياب البنى التحتية الأساسية التي من المفترض أن تؤمنها الدولة لمواطنيها. المنظومة الحاكمة في لبنان، التي لا حكومة لديها منذ سنة تقريباً، مشلولة تماماً وليس في مقدورها اتخاذ القرارات المطلوبة لمواجهة الأزمة. الجهات الأمنية، وعلى رأسها الجيش اللبناني الذي يعاني هو أيضاً جرّاء ضائقة اقتصادية، تجد صعوبة في القيام بمهماتها. خطوة الحريري أثبتت مجدداً ضعف وعجز الزعامات الغنية والفاسدة من كل الطوائف، بينها حزب الله الذي يركز في الأساس على المحافظة على قوته ومكانته من دون أن يُظهر أي استعداد لتقديم تنازلات من أجل مصالح كل سكان الدولة.
لا يبرز حل في الأفق، وحتى المساعدة الخارجية تتأخر: دول الغرب، التي يئست من الاستجابة لمطالبها وتأليف حكومة تقوم بالإصلاحات كشرط للمساعدة، تدرس فرض عقوبات على الزعامات اللبنانية: روسيا والصين مستعدتان للمساعدة بشرط تأمين مقابل لاستثمارها؛ وتطلُّع نصر الله إلى الحصول على مساعدة من إيران لم يتحقق بسبب تخوف لبنان من أن يؤدي حصوله على هذه المساعدة إلى استبعاد إمكان حصوله على دعم دولي واسع.
فحص السيناريوهات المحتملة للتطورات في لبنان لا يبشر بالخير: السيناريو الأكثر معقولية الآن هو استمرار الأزمة الحالية والتدهور المستمر حتى التفكك الكامل أو تشرذم الدولة، وربما نشوب حرب أهلية ثالثة. سيناريو متطرف إضافي هو السيطرة المطلقة لحزب الله على لبنان وتوسّع القبضة الإيرانية في هذه الدولة.
ماذا يعني لإسرائيل استمرار الأزمة في لبنان؟ في إسرائيل وجهتا نظر إزاء هذه المسألة:
تفكُّك لبنان سيئ لإسرائيل – مؤيدو وجهة النظر هذه التي تعكس افتراض أن من مصلحة إسرائيل أن يبقى لبنان مستقراً وموالياً للغرب، يقولون إنه على الرغم من سيطرة حزب الله على لبنان إلّا إنه ليس عنصر القوة الوحيد، وأي تدهور إضافي في الوضع الداخلي للدولة سيقوّيه ويمكن أن يؤدي إلى تغيير توازن القوى الداخلي في لبنان ضد مصلحة إسرائيل في الأساس في المدى البعيد. وبذلك يحقق نصر الله رؤيته بتحويل لبنان إلى دولة أُخرى واقعة تحت وصاية إيران، وإلى جزء لا يتجزأ من المحور الشيعي. منذ بداية الأزمة الاقتصادية – السياسية المستمرة في لبنان ادعى نصر الله أن على الاقتصاد اللبناني الانفصال عن الغرب والتوجه شرقاً، وفتح جسور مع إيران والعراق وسورية. لذا من المحتمل أن يؤدي تفكُّك لبنان إلى دفعه إلى الحضن الإيراني الحار وتحوّله مع مرور الأيام إلى معقل آخر لإيران شبيه بسورية.
تفكُّك لبنان جيد لإسرائيل – الذين يعتقدون ذلك، ولا سيما هؤلاء الذين يدّعون أن حزب الله يسيطر على لبنان حالياً، يقولون إنه كلما ازدادت المصاعب الداخلية في هذه الدولة كلما غرق حزب الله في مواجهة مشكلات هذا البلد (أيضاً في وضع التفكك)، وسيكون من الصعب عليه التفرغ للمواجهة مع إسرائيل، وسينتهج نهجاً منضبطاً أكثر حيالها. بحسب وجهة النظر هذه، حتى لو اضطر حزب الله في نهاية المطاف إلى اختيار السيطرة بالقوة والاستيلاء رسمياً على السلطة في لبنان – خطوة امتنع من القيام بها حتى الآن في ضوء الميزات التي يمنحها له الوضع القائم في المحافظة على قوة عسكرية مستقلة والتأثير السياسي فيما يحدث في الدولة من وراء الكواليس من خلال حلفائه – فإن هذا السيناريو يمكن أن يخدم مصالح إسرائيلية على الرغم من سيئاته. في هذا السيناريو سيكون هناك تماهٍ مطلق بين الدولة اللبنانية وحزب الله، وهذا ما سيوسع نطاق التحرك ويزيد شرعية إسرائيل على العمل في مواجهة لبنان، وخصوصاً في وضع مواجهات عسكرية أو حرب شاملة.
من خلال وجهتيْ النظر المختلفتين بشأن المصلحة الإسرائيلية حيال لبنان المنهار، تظهر مقاربات متعددة تتعلق بالسياسة التي يتعين على إسرائيل انتهاجها اليوم: الذين يدّعون أن وقوع لبنان في يد حزب الله هو أمر إيجابي يؤيدون سياسة عدم التدخل، ناهيك بأن قدرة إسرائيل على التأثير فيما يحدث في لبنان محدودة جداً. الذين يقودون هذه السياسة يدّعون أن على إسرائيل الامتناع من التدخل في التطورات الداخلية في لبنان وبالتأكيد عدم مساعدته، باستثناء تقديم مساعدة إنسانية مباشرة أو غير مباشرة، لأن أي مساعدة أُخرى ستقوّي حزب الله. بناء على ذلك، يتعين على إسرائيل الاستمرار في تركيز جهودها على إضعاف لبنان.
في المقابل يدّعي الفريق الآخر أنه لا يوجد تطابُق كامل بين لبنان وحزب الله والمصلحة الإسرائيلية لا تزال في بقاء لبنان مستقراً وموالياً للغرب. صحيح أن حزب الله هو اليوم العنصر الأقوى في لبنان عسكرياً وسياسياً، لكن ليس كل اللبنانيين من أنصاره، والأزمة الحادة التي تمر بها الدولة زادت في وتيرة الانتقادات حياله بسبب أفعاله في الساحة الداخلية. بناء على ذلك، يجب على إسرائيل محاولة الانضمام إلى المساعي لإيجاد أي طريقة لتقوية القوى الإيجابية المعارضة لحزب الله لمنع سيطرته المطلقة على مؤسسات الدولة وعلى سكانها وتحويل لبنان إلى دولة خاضعة لوصاية إيران. كل ذلك طبعاً من دون التخلي عن الجهود السياسية والعسكرية لإضعاف حزب الله.
نوصي حكومة إسرائيل بتحديث سياستها إزاء لبنان من خلال نظرة بعيدة المدى وفحص تداعيات تفكُّك الدولة اللبنانية على إسرائيل خصوصاً، وعلى المنطقة عموماً. ويجب على إسرائيل انتهاج مقاربة استباقية ترى في التطورات في لبنان أيضاً فرصة للتأثير في مستقبل هذه الدولة، وألا ترى قدراً من السماء هيمنة حزب الله عليه أو احتمال سيطرته عليه في سيناريو متطرف. هذه ليست توصية بالتدخل المباشر لإسرائيل في الشؤون الداخلية اللبنانية بصورة تشبه المحاولات السابقة التي فشلت، وأيضاً ليست توصية بالتجند لتقديم مساعدة مباشرة إلى لبنان: في جميع الأحوال قدرة إسرائيل على المساعدة محدودة لأن أغلبية اللبنانيين تعتبرها “دولة عدوة”. أي اقتراح لمساعدة الشعب اللبناني، بما فيه اقتراح وزير الدفاع بني غانتس في 6 تموز/يوليو تقديم مساعدة إنسانية بواسطة اليونيفيل، مرفوض رفضاً مطلقاً.
بناء على ذلك، المطلوب بلورة سياسية يمكن من خلالها الدعم موقتاً لمصلحتين مركزيتين لإسرائيل لا يزال من الممكن الدفع بهما قدماً: المصلحة الأمنية في مواجهة تهديد حزب الله بالإضافة إلى المصلحة بوجود دولة مجاورة مستقرة موالية للغرب في الشمال.
من أجل الدفع قدماً بمصلحة بقاء لبنان كبلد موالٍ للغرب وغير تابع لإيران – يتعين على إسرائيل تشجيع شركائها في الغرب، وفي الأساس الولايات المتحدة وفرنسا اللتان تتدخلان في مساعي مساعدة لبنان، وأيضاً أصدقاؤنا الجدد في الخليج، على بذل كل ما في وسعهم لتقديم مساعدة فورية وحصرية للشعب اللبناني من خلال رقابة صارمة على تحويل المساعدة لمنع وقوعها بين يدي حزب الله ومؤيديه. في هذا السياق من المهم جداً التنسيق مع الأميركيين لوقف قنوات انتقال المساعدة من إيران إلى حزب الله إذا رُفعت العقوبات المفروضة على إيران بعد توقيع الاتفاق بين إيران والولايات المتحدة والعودة إلى الاتفاق النووي. بالنسبة إلى إسرائيل، هناك أهمية أيضاً لاستمرار دعم الجيش اللبناني (طبعاً من دون حصوله على سلاح صاروخي يمكن أن يهدد أمن إسرائيل) الذي أثبت حتى الآن أنه العنصر الوحيد القادر على المحافظة على النظام الداخلي في الدولة، وأيضاً يجب فحص أفكار توسيع الوجود/التدخل الدولي (الولايات المتحدة وفرنسا من جهة، وروسيا والصين ومن المحتمل تركيا من جهة أُخرى).
كل ذلك في موازاة الاستمرار في الجهد المستمر لإضعاف حزب الله، سواء من خلال خطوات سياسية – دعائية لتشويه صورته في الساحة الداخلية اللبنانية أو من خلال العمل العسكري.
على المستوى العسكري، بالإضافة إلى الحاجة إلى مواصلة الاستعداد لاحتمال مواجهة على الحدود الشمالية، المطلوب فحص ما إذا كانت الأزمة في لبنان تشكل فرصة لإسرائيل للمس بقدرة حزب الله بقوة، والعمل بحزم أكبر على لجم محاولة “حماس” وإيران وحزب الله ترسيخ “معادلة ردع” جديدة في مواجهة إسرائيل من خلال خلق صلة بين المواجهات في الحرم القدسي وفي القدس والرد على ذلك بإطلاق الصواريخ من الشمال على إسرائيل كما حدث خلال عملية “حارس الأسوار” وحادثة إطلاق صاروخين في 22 تموز/يوليو، رداً على المواجهات العنيفة التي وقعت مؤخراً في الحرم القدسي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع