كتب عماد الدين أديب…
أطرح سؤالاً على الجميع: هل لبنان، كما هو الآن، يمكن أن يستمرّ؟ أم هو مرشّح بقوّة للانهيار المؤدّي إلى التقسيم الفعلي؟
لا أتحدّث أنّ التقسيم حادثٌ غداً أو بعد غد، ولكنّ فشل الصيغة الحالية سيؤدّي لا محالة إلى الدولة الفاشلة، التي لن تملك إلا التقسيم أو الضمّ. وحتى لا اُتَّهَم بأنّي أروّج وأبشّر بمشروع صهيوني-أميركي-انعزالي، فأنا كنت ولا أزال وسأظلّ أدافع عن لبنان السيّد الواحد الموحّد المستقلّ، الكامل السيادة على أراضيه ومؤسّساته، ذي الوجه الحضاري المنسجم تماماً مع محيطه العربي.
ولكن حينئذٍ يصبح السؤال الذي يفرض نفسه: علام أبني فرضيّة أنّ التقسيم قادم لا ريب فيه؟
خذوا كلامي على أنّه فرضيّة تستحقّ التأمّل، لأنّني حينما توصّلت إليها طرحت أوّلاً على نفسي هذه الأسئلة:
أولاً: هل لبنان، الذي قام على صيغة التعايش بين كل طوائفه، قادرٌ على الاستمرار وفق هذه الصيغة؟
ثانياً: هل صيغ دستور 1943 واتفاق الطائف، وصيغة الإرشاد الرسولي للسينودس الفاتيكاني كفيلة باستمراره؟
ثالثاً: هل صيغة التعايش هذه حقيقة أم وهم؟ هل تعايَشَ اللبنانيون عام 1958، وخلال الحرب الأهلية التي استمرّت 17 عاماً، وفي حرب الجبل؟
رابعاً: هل استطاع لبنان، عقب استشهاد الحريري والخروج السوري، أن يجد صيغة توافقية بعدما نشأ ما عُرِف بجماعتيْ 8 آذار و14 آذار؟
خامساً: هل نجح لبنان في أن يكون اختياره لرئيس الجمهورية أو رؤساء الحكومات، أو إجراؤه التعيينات في المناصب الإدارية العليا والوسطى سلساً وطبيعياً وقصيراً؟
سادساً: هل قرار الحرب والسلم على حدوده الجنوبية هو قرار سيادي يتّخذه كل اللبنانيين أم تيّار منفرد منهم؟
سابعاً: هل علاقات لبنان الإقليمية والعالمية يحدوها مجموع إرادة أهواه السياسية؟
ثامناً: هل الأمن القومي اللبناني، وأمن البلاد الداخلي ترسمه أجهزته الوطنية أم مرهون بقوى أمنيّة واستخباريّة أخرى؟
تاسعاً: هل صيغة مشروع دولة ولاية الفقيه، التي أعلن سماحة السيد حسن نصرالله إيمانه وولاءه المطلق لها، قابلة للتطبيق على كل لبنان؟
عاشراً: هل يمكن إيجاد صيغة تتوافق فيها ولاءات السُنّة السياسية مع الخليج العربي، وولاءات الشيعة السياسية مع إيران، وولاءات الموارنة السياسية مع فرنسا والولايات المتحدة؟
حادي عشر: بعد الانهيار المالي وسقوط النظام المصرفي، هل يمكن أن يكون لهذا الاقتصاد الوطني أيّ مستقبل، خاصة أنّه يتّجه بقوّة نحو رفع كلّ أشكال الدعم للسلع والأدوية والمحروقات والخدمات؟
ثاني عشر: هل يمكن لنادي المحاصصة السياسية للفساد أن يستمرّ في إدارة شؤون البلاد، وأن يكون حدٌّ أدنى من الثقة الشعبية به؟ (لاحظ نتائج انتخابات الجامعات والنقابات التي سقطت فيها كل الأحزاب التقليدية).
ثالث عشر: هل يمكن للثورة الشعبية أن تغيّر سيطرة الطبقة السياسية؟
رابع عشر: هل يمكن للجيش اللبناني أن يستولي على الحكم، ويعلن إدارة شؤون البلاد من دون أن ينقسم طائفياً، ومن دون أن يصطدم مع حزب الله، وهو يعاني من التسييس في التعيينات القائمة على تركيبة طائفية؟
الإجابات كلّها تقول إنّ لبنان الحالي غير قابل للنقاش والاستمرار والإصلاح، وهو يسير من قاع للتدهور إلى أن يغرق في قاع أعمق من تدهور جديد.
لبنان اليوم ليس كما أراده الفرنسي عام 1943، وليس كما أراده السعودي في الطائف، وليس كما أراده الأميركي عند دخول المارينز، وليس كما أراده الإسرائيلي في كل عمليّاته العسكرية، والأهمّ ليس كما يريده شعبه الصبور.
لبنان الحالي بصيغته الحالية غير مُرْضٍ لأيٍّ من صانعيه المحليّين، أو داعميه الإقليميين، أو أصحاب المصالح الدولية فيه.
لا يوجد أيّ أمل جدّيّ، سواء في باريس أو واشنطن أو برلين أو لندن أو دمشق أو طهران، في أن تقدر الصيغة الحالية على الاستمرار أو البقاء.
قد يكون التدهور الحالي مفيداً، بشكل مؤقّت، لبعض اللاعبين محلياً وإقليمياً، لكنّ الجميع يدرك أنّ مشروع الدولة فشل، وسقوط النظام حتميّ، وتفكّك المؤسسات حادث، وإمكان الاستمرار الاقتصادي والمالي مستحيل، كما تُثبت الأرقام.
إذن نحن أمام معادلات كلّها تسير في اتجاه سقوط دولة وتفكّك نظام وفوضى وانهيار كامل.
إذا كانت الإجابة على كلّ هذه الأسئلة الجوهرية سلبيّة، فنحن أمام واقع مؤلم، لكنّه حقيقي، لا يمكن التهرّب من نتائجه ولا تعديل تداعياته.
باختصار نحن أمام حكم فاشل في عهد مسلوب الإرادة الوطنية، يدير اقتصاداً، لا قيامة مالية له، لدولةٍ فقدت مقوّماتها في ظلّ نخبة سياسية فاسدة فاقدة للكفاءة، وتحت مظلّة إقليمية متآمرة على السيادة اللبنانية، ويعايش عالماً من الكبار قرّروا أن يبيعوا لبنان كورقة مقايضة.
بناءً على مصدر عربي موثوق التقى وزير الخارجية السابق مايك بومبيو في أوروبا ربيع 2019، حذّر الوزير الأميركي من سقوط الدولة والنظام وحدوث انهيار كامل للبنان.
قال بومبيو، على عهدة المصدر العربي: “دع لبنان الحالي يسقط، فهذا، من وجهة نظرنا ونظر الكثيرين، أفضل احتمال، لأنّنا توصّلنا إلى استحالة إصلاحه“.
وحينما سأله المصدر العربي: وإلى أين يمكن أن يؤدّي ذلك؟
قال: “سقوط الدولة في لبنان يمهّد لاحتمالين لا ثالث لهما: إمّا إعادة بنائه من جديد، أو تقسيمه برعاية دولية وموافقة إقليمية، في ظلّ نظام شرق أوسطي جديد تماماً“.
ولا تزال تلك الرؤية مستمرّة مع إدارة بايدن.
التقسيم، آجلاً أو عاجلاً، آتٍ لا ريب فيه.
هذه رؤية خاطئة تحتمل الصواب، أو رؤية صحيحة تحتمل الخطأ، لكنّها آتية لا ريب فيها.
ويجدر دائماً مراعاة التركيبة السكانية غير التقليدية للسكان في لبنان، حيث يبلغ عدد سكانه ستة ملايين ومائة ألف نسمة (تقديرات تموز 2018)، أمّا المواطنون فهم 4,680,212، فيما يبلغ عدد اللاجئين السوريين 944 ألفاً بحسب دفاتر اليونيسيف، واللاجئين الفلسطينيين 469 ألفاً، والعراقيين قرابة ستة آلاف، أي ما يقارب 22 في المئة من القاطنين على أرض لبنان ليسوا من حاملي جنسيّته. وهي مسألة بالغة الأهمية في تسوية الشكل النهائي لمشروع تقسيم البلاد. ذلك كلّه جعل تعريف الدولة لا ينطبق على الحالة اللبنانية، لأنّ العناصر الخمسة المكوِّنة للدولة: البشري، الطبيعي، التنظيمي، المعنوي، الاعتراف الدولي بالكيان غير متوافرة بقوّة.
إنّ لبنان الحالي يعيش حالة من الانقسام الصريح الذي يُترجَم ديموغرافياً وفعلياً من خلال التقسيم الإداري للمحافظات والأقضية الصادر في آب 2018، وتوجد فيه تجمّعات وكتل سكانية ذات لون سياسي واحد، ومذهب سياسي ذي أغلبيّة، وصيغة طائفية غالبة، تتحكّم في نشاطاته ومواقفه وأسلوب معيشته اليومية واتّجاهاته التصويتيّة.
أدّى التقسيم الطائفي إلى الانقسام السياسي، وإلى التمترس الجغرافي في كانتونات محدّدة، كلٌّ منها يحمل أسلوب حياة ونظاماً قيميّاً، وكلٌّ منها له مجتمع ثقافي ونظام اقتصادي وتشابك عائلي ومصالح خاصة، ولها ولاءاتها الخاصة البعيدة تماماً عن الولاء للدولة الوطنية، والعابرة خارج الحدود للاستقواء بقوى إقليمية، هي صاحبة القرار في تحديد ورسم قرار الطائفة، ومحاولة فرضه على الوطن.
وفي مقايضة إقليمية جديدة يُعَدّ لها منذ سنوات سوف يكون هناك تصوّرات جديدة تماماً لمستقبل الأكراد والدروز والأيزيديّين والأمازيغ والشيعة بتيّاراتهم، والإسلام السياسي السنّي بجماعاته، والتركمان والبلوش والعرب والفرس.
انطلاقاً ممّا سلف، يُتوقَّع أن يكون مشروع التقسيم الطائفي للبنان هو الأوّل في التطبيق.
منذ منتصف العام الماضي، تؤكّد المعلومات أنّ هناك مشروع دراسة يجري تداوله بين باريس وبروكسل حول إمكان تقسيم لبنان إلى أربع محافظات، مثل أربع دويلات: واحدة للسُنّة، وأخرى للشيعة، وثالثة للمسيحيين، ورابعة للدروز، تُعطى القيادة والإدارة في كلٍّ منها لطائفة من هؤلاء مع إعطاء حقّ للطوائف الأخرى بالإقامة فيها، ولكن تحت مبدأ الإدارة للطائفة الأكثر عدداً، وحقّ الإقامة للغير من منطلق تمثيل الأقلّية.
وأدّت هذه الدراسة إلى زيادة اقتناع العديد من القوى الكبرى بفشل النخبة السياسية اللبنانية الحالية في إدارة شؤون البلاد، وبالتقسيم الذي ينتهي إلى أنّ لبنان غير قادر على ثلاثة أمور:
1- الاستمرار بالصيغة الحالية.
2- تعديل هذه الصيغة عبر ثورة شعبية.
3- فرض نظام جديد عبر حركة عسكرية من الجيش.
تؤكّد هذه الدراسة أنّه حيث لا توجد غلبة بشكل حاسم، ولا قوى إصلاحية فاعلة، فإنّ حلّ إعادة تشكيل لبنان القديم، وتعديل صيغة 1943 بأن يكون لكلّ طائفة السيادة على أرض، ولها مواردها وعلمها وتحالفاتها الإقليمية والدولية، هو الدواء المرّ الذي يجب أن يتجرّعه مشروع لبنان السيّد الواحد الموحّد المستقلّ.
هذا المشروع في حال قيامه سوف يعطي السُنّة الانتماء العربي، وبعض الشيعة الانتماء الفارسي، وبعض المسيحيين الانتماء الفرنكوفوني، ويعطي الدروز حق الاندماج مع دروز الشام وفلسطين أو التعايش كأقلّية.
وحتى يُنجَز هذا المشروع في لبنان لا بدّ من أربعة عناصر رئيسية:
1- غطاء دولي.
2- تسوية إقليمية.
3- انهيار كامل لمشروع الدولة الوطنية كما عرفناها منذ عام 1943.
4- تقسيم ديموغرافي يؤدّي إلى تقاسم المحافظات والأقضية بشكل طائفي متجانس، عبر الشراء أو التطهير العرقي والطائفي والتهجير القسري بالقوّة المسلّحة، وحسب قانون التقسيم الإداري الأخير.
ما يعيق التنفيذ العاجل لمشروع التقسيم الفعلي هو تعقّد التركيبة الديموغرافية داخل المحافظات والأقضية اللبنانية.
منذ آب 2017، قُسِّم لبنان إدارياً إلى 8 محافظات، أكثرها تعداداً للسكان هي محافظة جبل لبنان التي تبلغ مساحتها 1958 كلم مربعاً، ويصل تعداد سكانها إلى 1,831,533.
وتتكوّن هذه المحافظة من ستّة أقضية وهي جبيل وكسروان (المطلوب تحويلهما إلى محافظة) وزغرتا الزاوية وبشري والبترون والكورة والمنية. ويعتبر أصحاب المشروع أنّ هذه المحافظة هي الأكثر دقّة والأكثر أهمّية، ومنها مفتاح نجاح أو فشل المشروع.
حتى يتحقّق هذا المشروع لا بدّ من التمهيد له على الأرض بحيث تتبلور امتدادات جغرافية ذات مكوّنات طائفية متجانسة تخدم مصالح اللاعبين الخارجين.
إنّ “توتال الفرنسية”، و”الكمبون موبيل الأميركية”، و”روزنفت الروسية”، و”ايتي الإيطالية”، و”هيئة الغاز الإسرائيلية”، لديها مطامع في الـ15 حقلاً للغاز داخل وقبالة السواحل اللبنانية.
وترى طهران الوجود الاستراتيجي للمكوّن الشيعي من صور حتى حدود مزارع شبعا أمراً لا يمكن التنازل عنه.
وتؤمن تركيا بضرورة وجودها الأمني والتجاري في محافظات الشمال، وتحديداً في طرابلس.
وترى فرنسا أنّ المكوّن المسيحي المتحالف مع السُنّة المعتدلين هو ضمانة للمصالح التقليدية للأم الرؤوم في لبنان. في عالم يعاني من السيولة والارتباك، ويشهد إعادة توزيع النفوذ والقوى، سوف يكون لبنان من أوائل نماذج المقايضات المقبلة إقليمياً ودولياً. لن يكون ذلك سهلاً، لكن بفاتورة من الخسائر المادية والدماء البشرية. وكما يقول الفكر الروحاني البوذي “إذا كان خروج الروح من الجسد صعباً، فإنّ عودتها إليه أكثر إيلاماً”، كذلك سيكون سقوط الدولة في لبنان مؤلماً، ولكنّ احتمال إعادة بنائها سيكون أكثر إيلاماً.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع