رامي الأمين – صحافي لبناني
أن يعلم العراقيون أنهم تحت المراقبة والتنصّت، فهذا لن يكون صادماً، لشعب عاش في ظل حكم صدام حسين حتى عام 2003 ثم عاش تحت الاحتلال الأميركي وما رافقه وتلاه من حرب أهلية، ثم عاش حروباً ضد تنظيم “داعش” الإرهابي لم تنته إلى يومنا هذا. وسيخرج غالباً، إزاء خبر كهذا، سؤال من نوع: “ما الجديد؟“.
هذا الموضوع جزء من “مشروع بيغاسوس” وهو تحقيق استقصائي تعاوني تم تنسيقه عبر “قصص محظورة” أو Forbidden Stories للصحافة ومقره باريس، والمختبر التقني لمنظمة العفو الدولية. المشروع يحقق في داتا مرتبطة بمجموعة NSO الإسرائيلية للاستخبارات الرقمية والتي تبيع أنظمة مراقبة متطورة للحكومات حول العالم.
80 صحافياً يمثلون 17 مؤسسة إعلامية من حول العالم، بينها موقع “درج”، عملوا لإنتاج سلسلة التحقيقات هذه.
أول ما قد يتبادر إلى الذهن أثناء القراءة عن برنامج “بيغاسوس” التنصتي الذي تبيعه شركة NSO الاسرائيلية لأنظمة عربية، هو سيل من الأسئلة: ماذا لو كان صدام حسين لا يزال على قيد الحياة؟ ماذا لو وقعت تكنولوجيا مماثلة في يده؟ كيف كان ليستعملها؟ وكيف كان ليحوّلها إلى أداة قمع وخوف؟
وستشكر الخالق، وأنت تفتح فمك متفاجئاً من قدرة هذه التقنية “الشريرة” على اختراق “ذكاء” الهواتف وخصوصيات مستخدميها، على أنها لم تقع في يدي طاغية كصدام حسين. لكن مهلاً… لا تستعجل. هذه التكنولوجيا “الشريرة” التي ابتكرتها إسرائيل انتهت في الواقع في ايادي أنظمة أصابتها “عدوى” البعث في أسلوب تعاملها مع معارضيها، وفي التنصت على شعوبها وجيرانها والدخول الى بيوت الناس وغرف نومهم، عبر “مايكروفونات” الهواتف الذكية وكاميراتها، لتسجيل ونسخ وتصوير كل ما تحتاجه لابتزاز خصومها ومعارضيها والإبقاء على ولاء المقرّبين اليها عبر أدوات خوف “عصرية”.
لم يمتلك صدام حسين تكنولوجيا مماثلة في زمنه. بل كانت أدواته التنصّتية لتعدّ بدائية جداً بالمقارنة مع ما تقرأون عنه الآن. لكن اليوم، في زمن سقوط أبرز الطغاة التقليديين العرب، من القذافي إلى بن علي وصدام وعلي عبدالله صالح وحسني مبارك، يخرج مشروع “بيغاسوس” The Pegasus project الاستقصائي، بالتعاون مع 80 صحافياً من 17 وسيلة اعلامية من 10 دول تم التنسيق بينها عبر Forbidden stories، وبدعم من المختبر الأمني في منظمة العفو الدولية Amnesty international security lab، ليكشف عن برنامج يمكن أن نطلق عليه “سلاح تنصّت إلكتروني شامل”، لما له من قدرة على نسف جميع “جدران الحماية” firewalls، التي نظن أنها تحمينا ونحن نستخدم هواتفنا الذكية.
ليس مفاجئاً الكشف عن “آذان” تتنّصت في العراق. يعتقد كثر من العراقيين، خصوصاً السياسيين والأمنيين والصحافيين، أن هناك مئات “الآذان” التي تتنصّت عليهم من مختلف أجهزة استخبارات العالم. لكنها تبقى في سياق السردية الكلاسيكية عن تصارع أجهزة الاستخبارات في ما بينها على الساحة العراقية. لم يسبق ان تم إثبات أي من هذه “الاعتقادات”. وتذهب شكوك العراقيين إلى طرفين استخباريين أساسيين يخوضان معاركهما في العراق. وتوجّه أصابع الإتهام غالباً إلى الأميركيين والإيرانيين لجهة السيطرة الاستخبارية، خصوصاً ان الطرفين في حرب مفتوحة داخل الأراضي العراقية، وتتمثّل “قمة” هذه الحرب، ربما، في اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني مع الرجل الثاني في “الحشد الشعبي” العراقي ابو مهدي المهندس قرب مطار بغداد في الأسبوع الأول من عام 2020.
ان يعلم العراقيون أنهم تحت المراقبة والتنصّت، فهذا لن يكون صادماً، لشعب عاش في ظل حكم صدام حسين حتى عام 2003 ثم عاش تحت الاحتلال الأميركي وما رافقه وتلاه من حرب أهلية، ثم عاش حروباً ضد تنظيم “داعش” الإرهابي لم تنته إلى يومنا هذا. وسيخرج غالباً، إزاء خبر كهذا، سؤال من نوع: “ما الجديد؟”. والإجابة عن هذا السؤال ستكون صادمة بالفعل مع ما يكشفه المشروع من برنامج مدهش في قدرته على اختراق الهواتف والتنصّت على أصحابها من دون نصب أي “ألغام” الكترونية يمكن أن “تدوس” إصبعك عليها وانت تستخدم حقل شاشة هاتفك الخليوي الواسع. بمجرّد استهدافك، يسقط هاتفك تماماً في يد من يستخدم التقنية الشريرة المتطورة التي ابتكرتها الشركة الاسرائيلية، وستكون حينها مكشوفاً بالكامل له، عبر هاتفك الخليوي، الذي سينقلب إلى قنبلة موقوتة بين يديك.
ما الجديد؟
يظهر “مشروع بيغاسوس” انكشافاً هائلاً للمنظومة العراقية بمعظم مفاصلها “الحساسة” أمام برنامج التنصت الذي تتيحه الشركة الإسرائيلية NSO المتخصصة بتكنولوجيا الاستخبارات الالكترونية، لجهازي استخبارات مرتبطين بالسعودية والإمارات، وضعا شخصيات عراقية تحت الاستهداف الالكتروني، ما يرجّح تعرّض هواتفها المحمولة لعملية تنصّت معقّدة تتيح لهما التحكّم بمختلف البيانات من تسجيلات صوتية وصور وفيديوهات ورسائل مكتوبة. البرنامج متطور جداً، وربما لا يعلم حتى أكثر المسؤولين العراقيين الأمنيين خضرمة بقدراته الكبيرة على كشف أجهزة الهاتف والولوج بالكامل إلى مضمونها الحساس، من دون حتى ان يشعر الشخص المستهدف بأنه تلقّى أي رسالة مريبة أو أي رابط يبعث على الشكّ.
من المرجّح وقوع مسؤولين أمنيين عراقيين في مواقع “حسّاسة” ضحية هذا البرنامج كما يكشف “مشروع بيغاسوس”. لكن لم يتسن لنا إخضاع اي من الأجهزة في العراق للتحليل الجنائي الذي يقوم به المختبر الأمني في منظمة العفو الدولية Amnesty international security lab. وقد تم التأكّد من عدد من الأرقام التي تعرضت للاستهداف، ولا يعني ذلك حكماً النجاح في خرقها، لكنه يضع احتمالية كبيرة لذلك. وبين الشخصيات، رئيس جهاز الاستخبارات الوطني العراقي مصطفى الكاظمي، قبل أن يتولى منصب رئاسة الحكومة العراقية في وقت لاحق، حيث وضعت أرقام هاتف ترتبط به تحت التنصّت في فترة ترجع إلى سنة قبل تولّيه منصب رئاسة الحكومة. كما استهدف هاتف ضابط كبير في الجيش العراقي هو الفريق الركن علي الأعرجي، والذي يشغل اليوم منصب أمين سرّ وزارة الدفاع العراقية، من قبل مشغّل تابع للإمارات لفترة تقارب ستة شهور. ولم يوفّر جهازا الاستخبارات التابعان للسعودية والإمارات رئاسة الجمهورية العراقية، بشخص الرئيس برهم صالح، ولا رئاسة مجلس النواب بشخص محمد الحلبوسي الذي شغل سابقاً منصب محافظ الأنبار، ولا رئيس الحكومة في الفترة الممتدة بين تشرين الأول/ أكتوبر 2018 وأيار/ مايو 2020 عادل عبد المهدي، من “الاستهداف” الإلكتروني لهواتفهم. هاجمت شركة NSO الإسرائيلية هواتف الرئاسات العراقية الثلاث ووضعتها، مع بياناتها وحركة اتصالاتها بالكامل تحت احتمالية التنصّت، ولم يوفّر المتنصّتون حتى احد ارقام هاتف الرئيس صالح البريطانية، فضلاً عن أرقام عراقية يمتلكها هو ومقرّبون له.
كما تعرضت شخصيات سياسية في مواقع مختلفة، من وزراء ونوّاب ومحافظين وضباط وشخصيات أمنية رسمية ورجال دين (بينهم المرجع الشيعي السيد علي السيستاني والسيد عمّار الحكيم) وصحافيين ونشطاء وسفراء، لمحاولات خرق هواتفهم في فترات تمتد بين بداية عام 2017 ونهاية عام 2019، بحسب التسريبات التي بين أيدينا، والتي يبرز من خلالها أن الإمارات أكثر نشاطاً في العمل الاستخباراتي داخل الأراضي العراقية، عبر هذا البرنامج، من “زميلتها” السعودية.
وفي حين كان مثيراً للانتباه، ألا تستخدم البرنامج المتطور السعودية والامارات للتنصّت على أرقام إيرانية داخل ايران، لأسباب يبدو أنها تتعلق بـ”فيتو” إسرائيلي لرغبة اسرائيل بالتفرد بالتنصت على إيران، بدا لافتاً العدد الكبير من الشخصيات العراقية المتصلة مباشرة أو المقرّبة من إيران الموضوعة على لائحة أهداف البرنامج. وبين هؤلاء سياسيون عراقيون حلفاء لإيران وقيادات بارزة في الحشد الشعبي وقادة ميليشيات موالون لايران، وصحافيون يعملون في مؤسسات إعلامية قريبة من إيران سياسياً، فضلاً عن ديبلوماسيين إيرانيين على رأسهم السفير الإيراني في بغداد (الذي تم استهداف هاتفه من قبل الإمارات لأيام عدّة في اواخر عام 2018) وقنصلي إيران في النجف والبصرة، وموظفين في قنصليتها في النجف.
أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد وقائد كتائب “حزب الله” العراقي، الذي اغتالته طائرة مسيّرة أميركية مع سليماني في 7 كانون ثاني/ يناير 2020، كان من ضمن الشخصيات التي تعرضت للاستهداف. وقد تعرّض هاتفان مرتبطان به للتنصّت، قبل شهور قليلة من اغتياله، من قبل السعودية. كما تضمّ اللائحة المسرّبة، أرقام شخصيات أمنية رفيعة في “الحشد الشعبي”، بينها قاسم مصلح الرجل المتهم بقتل متظاهرين ونشطاء، أبرزهم الناشط إيهاب الوزني، والذي ألقت السلطات الأمنية العراقية القبض عليه بتهمة “الإرهاب”، قبل أن يطلق القضاء العراقي سراحه “لعدم كفاية الأدلّة”. وقد تعرض لمحاولة استهداف هاتفه، من قبل الإمارات، في الفترة الممتدة بين منتصف عام 2017 ومنتصف عام 2019، اي لعامين كاملين. كما حاولت الإمارات استهداف القيادي في الحشد ثامر التميمي، ما قد يرجح تعرّض هاتفه لرقابة بين منتصف عام 2018 ومنتصف عام 2019، أي تقريباً لمدة عام. وكذلك فعلت السعودية مع فالح الفياض رئيس “هيئة الحشد الشعبي” (2014-2018) وقد استُهدف هاتفه عام 2019. ويبرز في أكثر من مكان في التسريبات اسم الوزير السابق والنائب الحالي هادي العامري زعيم منظمة “بدر” المنضوية تحت ألوية “الحشد الشعبي”، وقد وضع أكثر من رقم هاتف يعود إليه أو الى مقرّبين منه تحت احتمالية الرقابة. كما يظهر أيضاً اسم حسن الساري (ابو مجتبى) وهو أمين عام “حركة الجهاد والبناء”، وقد وضع هاتفه تحت التنصت من قبل الإمارات لسنتين متتاليتين، فضلاً عن اسم أحمد الأسدي، النائب الحالي، والذي كان في فترة استهداف هاتفه بين بداية عام 2017 ومنتصف عام 2019، متحدثاً رسمياً باسم هيئة “الحشد الشعبي”. هذا ما قد يشير إلى أن الإمارات، والسعودية بدرجة أقلّ، قادرتان على سماع حتى الهمسات الخفيضة لأبرز مسؤولي “الحشد الشعبي” على الأراضي العراقية.
تضمنت التسريبات أيضاً أرقاماً تعود لصحافيين ونشطاء يعتقد انها تعرضت للتنصّت من برنامج “بيغاسوس”، ومن بين الأرقام التي استطعنا التأكد منها واحد استهدف من قبل البرنامج في الفترة الممتدة بين نهاية عام 2018 ومنتصف عام 2019، وهو رقم يعود لصحافي عراقي كان مراسلاً لقناة سعودية، وقد تعرض هاتفه للاستهداف من قبل مشغّل إماراتي وقد تواصلنا معه، وأكد انه كان يتوقع ان يكون هاتفه كأي صحافي عراقي تحت التنصت، لكنه تفاجأ حينما علم بالجهة، وسأل اسئلة عن كيفية حماية هاتفه والتأكد عما اذا كان لا يزال مستهدفاً إلى الآن. أما الصحافي الآخر الذي يلفت النظر استهداف رقمين هاتفيين له، فهو مراسل لقناة “آسيا” الفضائية التي تدور في الفلك الإيراني. تعرض لاستهداف محتمل على هاتفيه الخليويين من مشغّل إماراتي أيضاً، ولمدة تزيد على عامين متواصلين. ولدى اتصالنا بالرقمين تبين انهما أصبحا خارج الخدمة.
كردستان على خارطة “بيغاسوس”
تراعي شركة NSO مع زبونتيها “العزيزتين” الخصوصية العراقية لجهة التنوع الطائفي والاثني و”تحترم” جميع المكوّنات العراقية، ولهذا وجدنا في التسريبات الكثير من الأرقام العائدة لاقليم كردستان الذي يخضع لحكم فيدرالي ضمن الحكومة الاتحادية العراقية. أبرز الأرقام التي تعود لشخصيات كردية بارزة كانت لمسرور بارازاني، رئيس مجلس الوزراء الكردستان ونجل الرئيس السابق للاقليم مسعود بارازاني. تعرّض هاتف بارازاني لاحتمالية الاستهداف من الإمارات لفترة تقارب العام ونصف العام، كما تعرّض مقربون منه، بينهم أحد مستشاريه الأمنيين لتنصّت محتمل، تزيد مدّته على عام ونصف العام أيضاً من قبل الجهة نفسها. كما تضم التسريبات أرقاماً كثيرة لشخصيات كردية، لم نستطع التأكد منها كلها، لكنها على الغالب تعود لشخصيات ناشطة في الشأن العام، في السياسة والأمن والصحافة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع