بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يواجه الكيان الصهيوني تغييراً حقيقياً في المزاج العام الدولي، تلمسه حكومتهم ويدركه شعبهم، وتشكو منه مؤسساتهم، وتعاني منه مستوطناتهم، ويخشى من تعاظمه قادتهم وزعماؤهم، ويحذر من استمراره أنصارهم، ولا يقوى على صده والحد منه مؤيدوهم، وهو ما لم يعتد عليه الإسرائيليون وما لم يألفوه قديماً، فما تهيأوا له ولا استعدوا لمواجهته، إذ ما كانوا يتوقعون حدوثه يوماً.
فهم ربيبة القوى الاستعمارية، وصنيعة الدول الاستكبارية، التي أشرفت على تأسيس كيانهم، وحرصت على دعمه وتمكينه، وعملت على رعايته وحمايته، وتحملت المشاق وتكبدت الصعاب في سبيله، وأرهقت بالضرائب جيوب مواطنيها، وألزمت خزائنها وبيوت مالها على الوفاء بالتزاماتها وتوفير احتياجاتها لضمان بقائه واستمراره، وصموده وتفوقه، في مواجهة التحديات المستجدة والجوار المعادي.
إلا أن دول العالم بدأت تعيد تفكيرها تجاه إسرائيل، وتراجع مواقفها إزاءها، وتتنصل من التزاماتها معها وتعهداتها لها، فقد غدت عبئاً كبيراً وهماً ثقيلاً يضر بها ويزعجها، ويقلقها ويرهقها، ويضر بأمنها ويهدد سلامتها، ويضعف اقتصادها ويعطل برامجها.
فقد رأت بعض الحكومات الغربية وغيرها، أن تأييد الكيان الصهيوني يتناقض مع القيم والأخلاق، ويتعارض مع العدالة والفضيلة، ويتسبب في أزماتٍ نفسية وتناقضاتٍ فكرية، ويحدث صراعاتٍ مجتمعية، فالمواطنون الأوروبيون والأمريكيون وغيرهم أصبحوا يرون لم يكونوا يرون، وباتت معلوماتهم عما يفعله الإسرائيليون بالشعب الفلسطيني دقيقة وموثوقة، ولم يعودوا أسرى الإعلام الصهيوني، ولا رهينة دهاقنة الإعلام المؤدلجين، الذين سخروا قدراتهم ومؤسساتهم لخدمة المشروع الصهيوني على حساب حقوق شعوب المنطقة.
أمام هذا التغيير اللافت للنظر، والذي رأيناه في التشريعات الأوروبية الجديدة الرافضة لتعويض “اليهود”، والاستمرار في دفع الأموال لذوي الناجين من المحرقة النازية، وفي سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة الآخذة في توجيه اللوم والنقد للحكومة الإسرائيلية، فهي لا تتردد في تحميلها المسؤولية، ودفعها للقيام بخطواتٍ من شأنها تخفيف الاحتقان، وتنشيط الاقتصاد، والتخفيف عن المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والكف عن الاعتداء على حياتهم وممتلكاتهم، والتضييق عليهم في مساكنهم ومساجدهم، ومصادرة أرضهم وبناء وتوسيع المستوطنات على حساب حقوقهم.
كما أخذت المنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان تهاجم الحكومة الإسرائيلية وتطالب بإدانتها ومحاكمتها، وباتت الجرائم الإسرائيلية وحروبهم على الفلسطينيين أمام القضاء الدولي، وعمدت محكمة الجنايات الدولية إلى إعداد الملفات وتصنيف الجرائم تمهيداً لبدء توجيه اتهاماتٍ رسمية ضد الحكومة الإسرائيلية، وضد مسؤولين حاليين وسابقين فيها وفي مؤسسة الجيش والمخابرات.
ولم تتأخر الشركات التجارية الدولية الكبرى، والوكالات والهيئات العلمية والفنية والرياضية في توجيه النقد إلى الإسرائيليين وحكومتهم، فمنها من قاطعت الكيان الصهيوني وامتنعت عن زيارته، ومنها من أعلنت مقاطعتها للمستوطنات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية، وتوقفها عن التعامل معها بيعاً وشراءً، واتجه بعضها إلى فسخ العقود الموقعة مع جهاتٍ إسرائيلية رسمية وشعبية، والتحلل من الشروط السابقة التي كانت تحكم عملهم وتنظم علاقاتهم، وتقيد مبادلاتهم التجارية معهم.
أما على المستوى الرياضي فقد امتنعت أندية دولية كبيرة عن إجراء مبارياتٍ في الكيان الصهيوني، أو المشاركة مع فرقهم الرياضية في عقد مباريات دولية سواء كانت كرة قدم، أو أي أنشطة رياضية أخرى، ما عده الإسرائيليون أنه من أكبر الصفعات التي يتلقونها في الفترة الأخيرة، عند امتناع نادي برشلونة الأسباني عن تنظيم مباراة مع فريق بيتار الإسرائيلي، استجابةً للطلب الفلسطيني، ونزولاً عند جماعات الضغط والمنظمات العاملة ضمن حملة المقاطعة الدولية للكيان الصهيوني PDS، فضلاً عن امتناع مشاهير الرياضيين عن مشاركة الإسرائيليين أنشطتهم أو التعاون معهم.
أمام ما سبق وغيره مما لم يعلن عنه الإسرائيليون ولكنهم يشعرون به ويدركون مخاطره، بدأوا في الإعداد لهجمةٍ عكسيةٍ وخطوة ارتدادية منظمة ومدروسة لتدارك ما يحدث، والتصدي للمخططات التي تستهدفهم، والعمل على الحد من تنامي هذه الظاهرة التي تقلقهم، فأخذوا ينظمون رحلاتٍ دوليةٍ وجولاتٍ لسفراء وشخصياتٍ دوليةٍ مرموقة، لزيارة المستوطنات الإسرائيلية التي تضررت نتيجة قصف صواريخ المقاومة لها، والوقوف على آثار الدمار الناجم عنها في مختلف المدن “الإسرائيلية”.
كما عمدوا إلى تنظيم جولاتٍ مقصودةٍ لأمريكيين وأوروبيين للوقوف على حال القبة الفولاذية، والتعرف على مدى الحاجة الإسرائيلية في هذا الشأن، لتطويرها وزيادة بطارياتها وتوسيع انتشارها، فضلاً عن حاجتهم إلى المزيد من الصواريخ التي فقدوا الكثير منها في الجولة القتالية الأخيرة، التي استنزفت قبتهم واستهلكت صورايخهم، وكشفت عن مدى العيب والعجز الناشئ فيها.
لا نستخف بهذا التغيير ونهمله، وفي الوقت نفسه لا نغتر به ونفرح له، ونركن إليه ونتخلى عن أدواتنا ووسائلنا، ونطمئن إليه ونسلم له، بل ينبغي البناء على هذا المتغير الجديد والاستفادة منه وتطويره، والعمل على توسيعه وإقناع المزيد من الدول لإعادة قراءة وتقييم علاقاتها مع الكيان الصهيوني، فما هو متاحٌ لنا في هذه المرحلة ما كان متاحاً لنا من قبل، وإن كان هو محنة لدى العدو الصهيوني فإنه ينبغي أن يكون منحةً لنا وفرصةً، فلنحسن استغلالها، ولنفعل أدواتها، ولنطور وسائلها، على قاعدة الإيمان بتظافر الجهود وانتهاز الفرص، وتكامل الكل، وحاجتنا إلى الجميع في معركتنا التاريخية مع العدو الصهيوني.
المصدر: د. مصطفى يوسف اللداوي