عازم جدياً على خوض تجربته الثالثة في الحكم
“النهار”- ابراهيم بيرم
يروي بعض الذين هم في الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس نجيب ميقاتي على ندرتهم، انهم يذهبون اليه في الايام القليلة الماضية (اتصالا ومواجهة) وهم على درجة عالية من القلق واللايقين حيال امكان ان تنفتح الابواب الموصدة أمامه لكي يكون بإمكانه بلوغ المقام الذي بلغه سابقا مرتين (عامي2005 و2011) ولكنهم يعودون من عنده وهم على درجة عالية من الارتياح بفعل امرين اثنين :
الاول: ان الرجل يبدو وكأنه حسم خياراته وهو عقد العزم على الوصول الى السرايا الحكومية وان طال السفر، وانه استطراداً يجد في المشهد الذي آلت اليه الامور اخيرا فرصته لذلك.
الثاني: إنه يعي تماماً حدود الصعوبات والمعوقات التي سيقابلها ان اختار التحدي ويعرف ايضاً انه عندما يحسم خياراته فإنه يكون قد قرر سلفاً ولوج عتبة مغامرة وعرة المقدمات وجسيمة النتائج والتداعيات.
ومع يقينه بما يترصده وينتظره فإنه وطّن نفسه على بذل جهود استثنائية لكي لا يفوّت الفرصة الساعية اليه بقدميها.
والحسم الذي ما زال دونه مسافة ضئيلة جداً إن تقرر عند ميقاتي فهو مبني على قراءة دقيقة لحسابات الداخل المحفّزة وللمعطيات الخارجية الجاذبة الى حد الإغراء والإغواء.
على رغم كل مظاهر التعفّف والزهد بالحكم والملك السياسي التي ابداها في غير مناسبة، فان ميقاتي لم يكتم يوماً رغبة مضمرة تساوره بالعودة الى المنصب الذي تولاه مرتين، مرة لادارة حكومة الانتخابات الاولى التي اعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومرة بزنود وسواعد قوى الاعتراض يومها (بعد اسقاط حكومة الحريري الاولى). وعليه لم يلبث طويلاً بعد عزوف السفير مصطفى اديب ان بادر الى تقديم اوراق ترشيحه واعتماده للرئاسة الثالثة وذلك تجلى بالاعلان صراحة عن ان لديه صيغة حكومية جاهزة هي مزيج ذكي بين السياسيين والتكنوقراط (6 ممثلي القوى السياسية و14اختصاصيا) .
حينها كما صار معلوماً كان عرض الرجل استثنائياً وجاداً ومقبولا وينطوي على تطوير لمبادىء المبادرة الفرنسية نجمة المرحلة يومذاك بعد ان كانت تلك المبادرة قد تلقت الصفعة الاولى.
لكن المفاجاة التي لم يحسب لها الحساب هي ان الحريري تقدم فوراً ليقطع عليه الطريق لحظة خرج على شاشة احدى القنوات ليعلن ان الرئاسة الثالثة هي من حقه الحصري والشرعي وليس مطلوباً من احد ان يمن عليه بالتسمية.
على الاثر انزاح ميقاتي العارف لحدوده وانكفأ تلقائياً وبهدوء الى موقعه في نادي رؤساء الحكومات السابقين .
ولكن بعد انقضاء الشهر الرابع على مخاض تكليف الحريري المتعسر، بدأ التداول بان الحريري لن ينجح في المهمة التي تصدى لها والتلميح الى انه قد يضطر بعدها الى تسميته.
اما وقد صح الجزء الاول من هذا التكهن فماذا عن الجزء الثاني ؟ واستطرادا متى سيفصح الحريري عن مباركته لميقاتي خليفة له ؟ واي شروط يتعين ان تتوافر لمثل هذه اللحظة والمفترض وفق كل الحسابات والقراءات ان ساعتها آتية ؟
يقدم اكثر سياسي مخضرم في دائرة ميقاتي الضيقة الدكتور خلدون الشريف الوصف الاكثر دقة لحال ميقاتي في هذه اللحظة ولطريقة تفكيره ولخريطة الطريق التي عليه سلوكها ليضمن الوصول سالماً الى مرامه فيقول : ميقاتي ليس مرشحا حتى الان ليكون رئيس حكومة ولكن ثمة ترجيحات على توافقات كبرى تؤمن تسميته.
ويضيف ولكي ينجح يجب (على ميقاتي ) ان يخرج من اي التزام سبق ان التزم به الحريري وان يكون خلاقاً بخلق تركيبة (حكومية) ترضي الاطراف السياسية وتراعي الشارع الملتهب ومتطلبات المجتمع الدولي .
وعليه فان الشريف يصف وان بلغة ديبلوماسية حجم المعوقات الماثلة بعناد امام ميقاتي وهو بناء على هذا التشخيص يعلن ان ميقاتي :
– ما انفك ينتظر توافقات كبيرة وتحديداً خارجية وما لم تتوافر فمعناه ان الرجل يترك الباب موارباً لكي يؤمن انسحاباً امناً.
– يفصح سلفاً عن إمكان الا يقيّد ميقاتي نفسه بالتزامات الحريري وحساباته في موضوع الصيغة التي تحوذ على مقبولية الجميع.
والأكيد ان الشريف يريد في طيات كلامه ان يعزز فرص ميقاتي من خلال دحض التهمة عنه، بانه لايعامل نفسه وكأنه استنساخ لتجربة الحريري واستتباعاً لحساباته او وريثاً لعداواته وصداقاته في الداخل والخارج.
فليس من قبيل التجني ان ثمة نقاط ضعف اعترت التجربتين السابقتين لميقاتي في دست الحكم. لدرجة ان ثمة من يزعم ان ميقاتي خرج من تجربته الثانية الاكثر دراماتيكية، وقد خسر ثقة من سموه بما فيهم “حزب الله” والرئيس نبيه بري والتيار الوطني الحر. فهي عبارة عن تجربة مناكفة وجلّ اهتمامه خلالها ان يثبت انه لم يأت لينقض او يكمل تجربة أسلافه وتحديداً الحريرية السياسية.
وهو لم يخرج من تجربته تلك برضى الفريق الذي تظاهر بشراسة ليمنع وصوله خليفة لزعيمه الا بعد ان اضطر الى المرور في خضم اختبارات شتى اثبت خلالها انه انضبط تماماً بمناخات الحريرية السياسية ومصداقها الابرز بيانات نادي الرؤساء السابقين.
لذا كان متوقعاً ان تنقطع قنوات الاتصال بين ميقاتي والحزب ويعتصم الحزب بالصمت عندما طرح اسم ميقاتي مرشحا للتأليف. وهو (الحزب) لا يجد نفسه مضطراً ليكشف اوراقه لفترة طويلة. علماً ان المحيطين بميقاتي يذكرون انه ما تلفظ يوما أمام زواره باسم السيد نصرالله، الا مقروناً بصفات التبجيل والاحترام والاشارة الى موقعه في معادلات المنطقة، فضلا عن ان هؤلاء يذكرون ايضا انه عندما قرر ميقاتي الخروج من رئاسة حكومته الثانية فان السيد نصرالله كان اخر من زاره مبرراً ومودعاً.
ويعود المقربون من ميقاتي الى تقديم شرح واف عن العوامل التي يرونها تصب في خانته وتشجعه على المضي قدماً وفي مقدمها انه ربما الوحيد الذي تسمح حسابات الحريري العميقة بالقبول بتسميته اذا ما التزم قائمة شروط ممتدة زمانياً ومكانياً. ومع علم ميقاتي ان العواصم العربية المعنية بالشأن اللبناني وهي الرياض والقاهرة والامارات لن يكون بمقدورها الممانعة ووضع فيتو على اسمه اذا ما قرر الحريري تغطية ترشيحه، فانه يعلم ايضاً ان العواصم الغربية المعنية وان كانت لاتجد فيه مواصفات رجل الصدمة والانقاذ، فان الفرصة امام من سمتهم هي بداية تبدو معدومة لحسابات اكثرها مرتبط بخريطة الساحة السنية.
وفي كل الاحوال ميقاتي المرشح الاكثر جدية ولكن الطريق الى مربع التكليف والتأليف محفوف بالمخاطر والمفاجات وان عليه لزاما ان يخوض هذه المرة تجربته الخاصة جداً لكي يتحاشى صفة التبعية والاستلحاق فضلا عن ان ظروف التجربة المرتقبة لاتحتمل اطلاقاً صفات التجربتين السابقين.