حنا صالح
كلما اقتربت ذكرى 4 أغسطس (آب)، الذكرى السنوية الأولى للجريمة، عادت إلى الأذهان مشاهد التفجير الهيولي الذي ضرب بيروت. ومع الذكرى، تعود الأسئلة الكبيرة… لماذا استهدفت العاصمة؟ وما السبب؟ ومن المسؤول عن التفجير الأضخم عالمياً من خارج التفجيرات النووية؟ وهل كل العملية نجمت بالفعل عن مجرد إهمال من جانب عمال التلحيم، كما يحاول حسن نصر الله «إقناع» اللبنانيين بذلك، متوسلاً الضغوط على القضاء لتبني التحقيق الأولي للأجهزة العسكرية وإعلان نتائجه والاكتفاء به، وهو تحقيق لم يأخذ به قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار، ولا سلفه القاضي فادي صوان؟
وتتزاحم الأسئلة؛ خصوصاً عن هذا الإصرار على إقفال كل الأبواب، بوجه أي بحثٍ مفصل وتحقيقٍ قضائي متكاملٍ يكشف عن العوامل التي سببت إبادة جماعية، في تدمير المرفأ وجزءٍ تاريخي من وسط بيروت، وتركت «تروما» أصابت كل لبنان؟ ولماذا تُمارس شتى الضغوط «لفرملة» التحقيق في العوامل التي أدت إلى ذلك الحدث، في تجاهل متعمد لإرادة شعبية عبّر عنها أوسع الأوساط اللبنانية، بأن المواطنين، وليس فقط أهل الضحايا والمتضررين المباشرين، لن ينسوا ولن يسامحوا وكلهم إصرار على المحاسبة؟
لماذا يريدون التغطية على عملية إدخال ألوف الأطنان من «نيترات الأمونيوم»، وكانوا يعلمون أنها مواد شديد الخطورة وليست للاستخدام الزراعي، وخزّنوها في العنبر «رقم 12» باعتماد سيناريو ركيك الإخراج؟ ومن المسؤول عن سياسة التعامي عن هذا الخطر كل هذه السنوات؟ ولماذا ممنوع كشف السيناريو المتعلق بإخراج أكثر من 2000 طن من شحنة النيترات، مع ما تطلبه الأمر من ورش استخدمت الرافعات لسحب المخزون، والشاحنات لنقلها وإخراجها من المرفأ، وعبورها طرقات عامة حتى المصنع، ونقطة الحدود بين لبنان وسوريا؟ ألم تطرح كل هذه العملية أي سؤال؟ وهي كانت تتم تحت أعين الأجهزة العسكرية والأمنية والجمركية؟ فاكتفى بعض هؤلاء بوضع تقارير، بدا أنها كانت لزوم الأرشيف، وهدفها التبرئة من المسؤولية؟
كل التطورات ما بعد 4 أغسطس وحجم الاهتمام العالمي بالجريمة الخطيرة، أوجب اعتراف مسؤولين لبنانيين أنهم كانوا يعرفون، لكنهم سعوا إلى التنصل من المسؤولية. رئيس الجمهورية في حديث متلفز أكد أنه تبلغ قبل أسبوعين من التفجير تقريراً خطياً عن خطورة شحنة «نيترات الأمونيوم»، واستطرد أن لا سلطة مباشرة لديه، وعليه حوّل التقرير إلى المجلس الأعلى للدفاع! ورغم أنه رئيس هذا المجلس، لم يتابع الأمر، وهو قائد سابق للجيش، ويعلم حجم الكارثة فيما لو وقع المحظور، كما نبهت التقارير الخطية… وقدّم رئيس الحكومة أعذاراً جانبية لا تبرر مسؤوليته، كقوله إن أحدهم أبلغه أن لا خطورة، وحتى تاريخه يمتنع عن إبلاغ القضاء من هو هذا «الأحدهم» الذي «يمون» على صاحب الدولة؟ وتناوبت أبواق الدفاع عن بعض الوزراء بالقول إنه كيف لوزير تسلم ورقة (…) في العام 2014 كان سيعرف أن تفجيراً بهذا الحجم سيحدث بعد 6 سنوات؟! والأخطر أن يعترف وزير بأنه لم يتابع، متذرعاً بوجود قرار قضائي بحجز السفينة وتفريغ حمولتها، ووضع حراسة قضائية عليها تابعة لوزارة أخرى… ويتبلغ التقرير قائد للجيش، فيكتفي بأن لا حاجة عسكرية لهذه الشحنة! وهكذا دواليك كانت مواقف كبار المسؤولين!
ادعاء قاضي التحقيق العدلي طارق بيطار على كل من تسلم تقريراً خطياً أبرز المخاطر الكبيرة جداً، وامتنع عن تحمل المسؤولية، ما أثار قلق منظومة الحكم؛ خصوصاً لما سيكون للأمر من تداعيات، حتى على المنهبة المنظمة والانهيار العام. لم يطلبهم شهوداً، بل ادعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بوقوع الجريمة، و«القصد الاحتمالي» عالجته المادة 189 من قانون العقوبات اللبناني، فقالت؛ كان على المعني توقع جريمة قد تنشأ عن هذا الفعل، فقبل بالمخاطرة وتعامى عنها، وأغفل مسؤوليته عما أدى إلى النتيجة الجرمية… ففي ذلك قتل «قصدي». والسؤال الحقيقي هو؛ من هي هذه السلطة العليا التي دفعت كل الطبقة السياسية والقيادات العسكرية والأمنية إلى التعامي وقبول المخاطرة؟
هذا التطور، وما رافقه من ضغط شعبي متمسك بالحق في معرفة الحقيقة وتطبيق العدالة، جعل الصراع مكشوفاً بين القانون ومندرجاته «والأقوى»، لكنهم استخفوا بوجع المواطنين وتابعوا نهج الازدراء. هنا كل اللبنانيين يتذكرون ما قاله يوماً نبيه بري رئيس السلطة الاشتراعية: «وحده الضعيف يلجأ إلى القانون والقضاء» (!!) طبعاً ينطلق هذا القول من مسلّمة، مفادها أن الحق للأقوى، أي لصاحب السلطة والسلطان، وأنه ما من جهة بوسعها الحؤول دون حماية الجريمة ومرتكبيها على حساب القانون والحقيقة والعدالة، وفي الوضع اللبناني الراهن على حساب الدماء التي لم تجف بعد، نتيجة جريمة الإبادة التي ضربت قلب بيروت!
ولأنه في كل تاريخ لبنان، لم تحدث أي محاسبة، تطال مسؤولين سياسيين أو كبار القادة العسكريين والأمنيين، بدءاً من جريمة قتل نائب صيدا معروف سعد في العام 1975 وكل الجرائم الكبرى التي ضربت لبنان حتى تاريخه، فلماذا يجب أن تحصل المحاسبة اليوم؟ يعني أمام حقيقة أن كل المدعى عليهم يتمتعون بالحماية السياسية، فلماذا بالتالي يجب الرضوخ أمام المطالبة القضائية بالملاحقة، وإن كانت الجريمة هي جريمة ضد الإنسانية استهدفت بيروت ولبنان؟ لذلك لم يكن مفاجئاً أن يعلن وزير الداخلية أنه لن يمنح الإذن بملاحقة اللواء عباس إبراهيم المدير العام للأمن العام! كما أن الرئيسين عون ودياب ألقيا كرة منح الإذن بملاحقة اللواء صليبا على المجلس الأعلى للدفاع في محاولة للتنصل من المسؤولية (…)، فيما تجهد الأوساط النيابية، ولا سيما الكتل النيابية التابعة لبري والحريري و«حزب الله»، لتثبيت «الحصانات»، من خلال رمي كرة ملاحقة النواب المدعى عليهم، ومعهم رئيس الحكومة، على مجلس أعلى غير موجود، بل وهمي، ما أُنشئ إلا لتوفير الحماية للرؤساء والوزراء والنواب عند محاكمتهم!
قبل 3 عقود، انفجرت في فرنسا أزمة الدم الملوث، فقالت وزيرة الصحة جورجينا دوفوا: «أنا مسؤولة لكنني لست مذنبة»! لكن كونها على كرسي الوزارة لم تتمكن من تضييع المسؤولية، فاتخذ القضاء مجراه وحوكمت، وطال الحساب كذلك رئيس الوزراء الفرنسي لوران فابيوس. طبعاً سيقال هذا يحدث في فرنسا حيث لا يمكن الإفلات من العقاب، لكن نحن في لبنان! هذا صحيح، والأصح منه أن الزمن ما بعد «17 تشرين» ليس نفسه، وفيما البلد على مسافة أيام من الذكرى السنوية الأولى لتفجير المرفأ، أنزلت انتخابات نقابة المهندسين هزيمة مدوية بكل منظومة الحكم، وأولها «حزب الله». أبرز هذا الحدث عمق واتساع انفكاك المجتمع عموماً، والنخب خصوصاً، عن التبعية للطبقة السياسية، والابتعاد عن تحريضها وألاعيبها، ما قدّم دليلاً على تقدم تبلور حالة شعبية، بوسعها الدفاع عن المجتمع وحقوقه، أولاً المحاسبة والعدالة في جريمة المرفأ، وثانياً مسلسل جرائم الإفقار والمنهبة المبرمجة لتسهيل استتباع لبنان!
المصدر: الشرق الاوسط
01203766656584
159 4 دقائق