ليست المرة الأولى التي يتورط فيها رأس النظام السوري، بشار الأسد، في فوضى الأرقام حول أموال السوريين التي فرّت من البلاد في العشرية الأخيرة، أو حتى قبل ذلك. لكن كان من اللافت أن يركّز الأسد، مرة أخرى، على أموال السوريين الفارة إلى لبنان تحديداً، ويتجاهل ما كان إعلامه يتحدث عنه ليل نهار، قبل خريف العام 2019، بخصوص أموال السوريين التي هُرّبت إلى مصر والأردن وتركيا.
فالأسد -وهو الذي من المفترض أن يستند كلامه إلى أرقام موثقة وبيانات رسمية بحكم موقعه كرئيس للجمهورية-، كان أحد المزاودين في تلك البورصة التي اشتُهر بها إعلام النظام، فارتفعت أرقام السوريين في البنوك اللبنانية من (20 إلى 42) مليار دولار، حسب تصريح له في خريف العام 2020، لتصبح ما بين 40 إلى 60 مليار دولار، حسب خطابه بعد أداء القسم، قبل أيام.
واللافت في الأمر، أنه في آب/أغسطس 2019، أي قبل شهرين من بدء الأزمة اللبنانية في ذلك العام، نقلت صحيفة “تشرين” التابعة للنظام عن خبيرة اقتصادية، أن ودائع السوريين في المصارف اللبنانية تُقدّر بحدود 10 مليار دولار. وهو رقم قريب من تقديرات مصادر مصرفية لبنانية لودائع السوريين المقيمين وغير المقيمين، من غير حملة الجنسية اللبنانية، التي تتراوح ما بين 6 إلى 7 مليارات دولار.
فهل أضاف السوريون إلى ودائعهم خلال شهرين فقط، بين آب/أغسطس 2019 وتشرين الأول/أكتوبر 2019، أكثر من (30 إلى 50) مليار دولار؟! أم أن وجود أزمة في لبنان، كان مناسباً لإيجاد ذريعة إضافية لتبرير استمرار تدهور الحياة المعيشية في سوريا، رغم انتهاء الصراع المسلح على معظم الجبهات لصالح النظام، منذ ثلاث سنوات!
قد نجد إجابة جزئية على ذلك في تقرير صحيفة “تشرين” المشار إليه، والذي قال إن 2012 كان العام الذي تم خلاله خروج أكبر قدر من الأموال السورية، بينما شهدت سنوات 2013-2016 بعض الاستقرار، لتعود قيمة الأموال المهربة لترتفع مرة أخرى وبشكل واضح عام 2017.
فلماذا ارتفعت قيمة الأموال السورية المهرّبة مجدداً، خلال العام 2017، رغم أن هذا العام كان منعطفاً على صعيد استقرار معظم الجبهات لصالح نظام الأسد بدعم حلفائه الروس والإيرانيين؟! هل نسيء الظن، إن قلنا أن ذلك يرتبط بأداء النظام ذاته على صعيد التعامل مع قطاع الأعمال في الداخل السوري، والذي تحوّل إلى شكل من أشكال البلطجة، المقننة، كلما كان النظام يشعر بمزيد من القوة والأمان الوجودي، في السنوات الأخيرة من الصراع!
قد يكون أحد الأمثلة المفيدة للإجابة على ما سبق، تلك المتعلقة بفشل مساعي النظام في إقناع المستثمرين السوريين بالعودة إلى البلاد، من مصر تحديداً، التي قال رجل الأعمال السوري خلدون الموقع، المقيم فيها، إنها استحوذت على 23 مليار دولار من أموال السوريين الفارة من البلاد، وفق حديث له إلى وسيلة إعلام مصرية، عام 2019.
وبعيداً عن مدى دقة هذا الرقم الضخم، فإن سيرة خلدون الموقع ذاتها، تقدم إجابة شافية لما سبق طرحه. فالرجل قاد ما عُرف بـ “تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر”، منذ العام 2014، وتحوّل إلى حليف للنظام منذ العام 2017، فتعهد بالعمل على تطبيع العلاقات بين قطاعي الأعمال السوري – المصري، وكذلك، العمل على إقناع مستثمرين سوريين في مصر، بالعودة إلى بلادهم. لكن الرجل، بدلاً من ذلك، ذهب باتجاه إقناع السلطات المصرية بإقامة مدينة صناعية سورية على الأراضي المصرية. فلماذا أدار خلدون الموقع ظهره لنظام الأسد، بعد أن كان قد حاول التقرب منه بعيد العام 2017؟ هل تعلّم من مصائر نظرائه من رجال الأعمال المقربين من النظام، والذين بقوا في الداخل، وتعرضوا لحملة بلطجة على أموالهم، وصلت ذروتها في اجتماع الشيرتون الشهير، في أيلول/سبتمبر عام 2019، حين خيّر بعضٌ من أكثر رجال الأعمال قُرباً من النظام، بين تقديم جانبٍ من أموالهم لدعم الاقتصاد المتهاوي، وبين التعرض لتجربة شبيهة بتلك التي قادها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ضد أولاد عمومته من الأمراء، في خريف العام 2017؟!
قد تكون الإجابة جليّة في تجربة خليفة خلدون الموقع في التحالف مع نظام الأسد، ضمن قطاع الأعمال السوري بمصر. فالنظام، ابتعد عن الموقع، وتحالف مع باسل سماقية، رجل الأعمال السوري المقيم في مصر منذ الثمانينات، والذي يمتلك شركة قطونيل الشهيرة. لكن سماقية، هو الآخر، لم ينقل أياً من استثماراته الصناعية إلى سوريا، رغم وعودٍ سابقة بهذا الخصوص. ولم تُسجّل حركة عودة لاستثمارات سورية وازنة من مصر إلى سوريا، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل على العكس، ذهب بعض أبرز المستثمرين السوريين في مصر بعيداً في تعزيز حضورهم بالسوق المصرية، وجعلها قاعدة انطلاق لهم للتصدير للخارج. من أبرزهم، رجل الأعمال السوري الحلبي، محمد كامل صباغ شرباتي، الذي أسس في مصر ما يُوصف بأنه أكبر مصنع غزل ونسيج في إفريقيا، وهو المصنع الذي زاره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في العام 2018.
شرباتي كان قد حاول إعادة إحياء مصنع له، في منطقة القابون الصناعية قرب دمشق، وأرسل وفداً للعمل على بدء الترميم والإنتاج عام 2018، لكن النظام أوقف نشاطه، ونشاط عشرات الصناعيين مثله، حينما أصدر قراراً بوقف عمليات الترميم وإخلاء الصناعيين من المدينة، تمهيداً لهدمها وتحويلها لمنطقة أبراج سكنية، لصالح شركات ورجال أعمال، يُعتبرون واجهةً للأسد وشقيقه، أبرزهم محمد حمشو.
مثال المستثمرين السوريين في مصر، وسرّ عدم عودتهم إلى البلاد، رغم أن جلّهم ليسوا من أصحاب المواقف السياسية المعارضة، يوضح بشكل جلّي، أن المشكلة ليست في حربٍ أو عدم استقرار، أو “مؤامرة”. بل المشكلة في المحاصصة التي يفرضها نظام الأسد على المستثمرين السوريين، وحالة الفساد التي تفاقمت بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، بصورة جعلت البلاد منفّرة لأي مستثمر، حتى لو كان محلياً. أما بروباغندا الأموال السورية في البنوك اللبنانية، فلا تعدو كونها ذريعة جيدة، إلى جانب ذرائع الحصار والعقوبات، لتبرير نتائج الأداء الاقتصادي السيء لنظام الأسد.