ألمصدر:ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
يستطيع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري القول أن جائحة “كورونـا” تقف حائلاً بينه وبين السعودية لكنه لا يستطيع رد القطيعة بينه وبين الدبلوماسية السعودية في بيروت إلى الجائحة نفسها. السفير وليد البخاري جعل من خيمته “مركز استقطاب” سياسي حاد أقرب إلى نقطة “تجميع قوى” خارجة عن مفهوم تدابير الصحة العامة، وللمفارقة أن “بيّ السنّة” وزعيمهم ليس عضواً فيها ولا يتمتع بصفة ضيف! لقد لفظته عن سائر بني قومه.
أبقى السفير السعودي وليد البخاري الحريري بعيداً عنه، كان أقرب إلى مكوثه في الحجر الاحتياطي، أقرب إلى احتجازه في الريتز ولو كان حراً طليقاً في بيروت، أقرب إلى أسير وفق الأدبيات السعودية منه إلى زعيم يمثل طائفة كبرى. مضى على إقلاع السفارة عنه أكثر من عام ونصف ، لم تطأ قدما الحريري خلالها لا مقرّ السفارة ولا خيمة السفير، حتى تيار “المستقبل” ، الذي يجمع السنّة صريحة في الزود عن الرياض لم يستثن من حالة الغضب تلك. عنوةً عن الجميع، لم يمنح البخاري الأذن لزيارة “الوفد الداعم” إلاّ بعدما مضى على واقعة الوزير شربل وهبة نحو شهر. أسمع الوفد الذي حضر مواسياً “أبيات تقريع الحريري” كما يسمعها سائر الحاضرين إنما أبلغ!
أمسى سعد الحريري إذاً محاصراً بين بكركي (الديمان) و الروشة (اليرزة) حيث مقر السفارة السعودية ومنزل السفير. عداك عن الحصار المردود إلى التقريع اللفظي، جاءت “عظة الأحد” الأخيرة في الديمان، بمثابة الزيت المغلي الذي صُبّ على بيت الوسط. كاد خلالها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، أن يرقص طرباً لشدة ذهوله من طريقة خروج سعد الحريري من دائرة التكليف. حينها أرسل الراعي من هلى المنبر طلباً وراء رئيس مكلف “يكون على قدر التحديات”، عبارة تنطوي على “لطشة ساخنة” بلعتها بيت الوسط بصعوبة وآنست السفير البخاري.
أساساً، يُدرك الحريري ومن معه ومن وراءه من “شيوخ” تيّار “المستقبل”، أن الرجل ما عاد مطلباً سعودياً. تعاطي السفير البخاري السلبي معه لا ينمّ عن قرار ذاتي اتخذه الرجل بشكلٍ منفرد أو مستقل. يعلم الحريري وآخرون، أن البخاري يُصرّف توجهات الرياض حرفياً بحق بيت الوسط. يعلم الحريري أن المملكة ما عادت تلك التي تحصر علاقتها لبنانياً بالسنّة وحدهم وتجعلهم معبراً –وهو الأمر الخطير-. يُدرك الحريري أن أزمة بهذا العمق لن يكفي لتعديلها نعت 8 آذار بـ”تجار الكبتاغون” ولا التحامل اللفظي على “حزب الله” إنما إجراء عملية فحص شاملة حول توجهات الرياض المستقبلية.
عملياً، صارت بكركي ومعراب أقرب إلى السعودية من بيت الوسط وربما “عائشة بكار” حيث يقع مقر دار الفتوى وهذا إنما يوحي بإدخال تعديلات في المنهاج السياسي التي اتخذته المملكة زمن محمد بن سلمان. يقول متابعون للشأن السعودي، أن الرياض في نسختها الحالية، تتجه إلى عدم حصر العلاقة معها في جهة سياسية واحدة حتى لا تصبح أسيرة تلك الجهة. تبحث عن التنوع اذاً. كلام تتلقفه دار الفتوى بكثير من الذهول. ما يزيد الأمر تعقيداً ليس فقط عدم احتضان الحريري بصفته زعيم السنّة ، إنما الممارسة التي توحي بنقل وجهة المملكة السياسية إلى بكركي.
في اللقاء الأخير الذي استضافته بكركي تحت عنوان الإحتفال بمئوية العلاقة بينها وبين الرياض، اتضح أن الخطوة لم تكن مجرد احتفالية بسيطة وتوقيع كتاب، إنما تبديل سياسي في أولويات المملكة وتوجهاتها. أخذت الأمور تتمدد و توحي بمزيد من التبدلات حين حضر البخاري ضيفاً على طاولة معراب المتهم سيدها بإدارة الانقلاب على الحريري –رجل السعودية الأول- (كما يفترض) في لبنان. أخذ رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع ، يُطلق مواقف سياسية بدا ان البخاري يستأنس لها إنما يغطيها. بالنسبة إلى البعض هذا لا يمكن اعتباره “تكتيكاً” أو مسألة ظرفية” فرضت نفسها إنما توجهات عامة تأخذ بتجاوز العلاقة التاريخية بين المملكة والحالة السنية العامة –الروحية والسياسية- بوصفها بوابة العلاقة مع لبنان ومفتاحها وتجعل من بكركي ومعراب ممراً ومقراً ليس للعلاقة مع لبنان إنما مع السنّة ايضاً. مسار، جعل من سعد الحريري ضحيته الأولى بالتأكيد. هنا تحديداً، ينمو سؤال حول “الخطيئة” التي ارتكبها رئيس تيار “المستقبل”، الذي أعطى السعودية ما لم يعطها غيره- حتى يجري التعامل معه بهذه الحدة.
ليس سراً أن لقاء البخاري – جعجع في معراب أدى إلى إستياء عارم في الساحة السنية الشمالية. المسألة لا تنحصر فقط بحساسية هذه الساحة تجاه جعجع المتهم بقتل رئيس وزراء لبنان رشيد كرامي، إنما يتجاوزها حين تنمو مشاعر بصدور “توكيل” سعودي إلى جهة مارونية سياسية نافرة تجاه المجتمع الإسلامي ككل، لتسليمها مقاليد العلاقة بين لبنان والسعودية وتكون بوابتها وهو تبدل سيفرض تأثيراته في المرحلة المقبلة، ويحمل ليس فقط على تجاوز تاريخي، إنما تعديل في المفاهيم السياسية العامة التي تفرض أن تكون دار الفتوى معبر ومقراً العلاقة وليس أحد آخر. أما الخشية الأكبر التي تحتل نفوس “حكماء” أهل السنة تكمن في محاولة إدخال تعديلات على الأدبيات السياسية، تلامس إمكان إجراء تعديلات على ما حصّله السنّة في اتفاق الطائف، تعديلات بالممارسة يمكن تثبيتها في الدور لاحقاً، تعديلات على نحو إعادة تعزيز حضور “المارونية السياسية” في الدولة على ظهر الحضور السني.
هنا تحديداً ينقل عن أحد أعضاء طاقم السفارة السعودية كلام، يوحي بأن التبدلات ليست ظرفية أو تكتيكية إنما صفة عامة. يقول بتجرد أن “السعودية لم تعد مهتمة في الرهان على دور السنة، إنما تفضل في هذا الوقت العودة إلى زمن العلاقة مع المارونية السياسية”. هذا كلام كبير و يستبطن تغييرات جوهرية ستشهدها الساحة اللبنانية. البعض يحمّل وزر ما وصلت إليه الأمور ، إلى خلافات القادة السنّة وصراعاتهم الحادة بين بعضهم، والتي كان من تأثيراتها أن خفّضت من مستوى دورهم ورشّدت وهج وفاعلية الدور السني عامة، وهو سبب يدفع بالسعودية إلى البحث عن “شريك” محلي آخر، شريك يمكن الإعتماد عليه.
ما لا تدركه السعودية، أن التلاعب في ميزان القوى التي ثبتت حضورها من خلال اتفاق الطائف، قد لا يعيدنا إلى مرحلة ما قبل الإتفاق المذكور، إنما قد يؤسس إلى ما هو أسوأ.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع