الأرجح أن يخلف هذا الكشف مشاعر لدى اللبنانيين أنهم حيال تنصت أشرار على أشرار، لا سيما في هذا الوقت الذي يعيش فيه اللبنانيون أسوأ أيامهم على يد طبقة سياسية خضعت بدورها لتنصت من قبل رعاة وخصوم إقليميين وعبر تكنولوجيا إسرائيلية.
هذا الموضوع جزء من “مشروع بيغاسوس” وهو تحقيق استقصائي تعاوني تم تنسيقه عبر “قصص محظورة” أو Forbidden Stories للصحافة ومقره باريس، والمختبر التقني لمنظمة العفو الدولية. المشروع يحقق في داتا مرتبطة بمجموعة NSO الإسرائيلية للاستخبارات الرقمية والتي تبيع أنظمة مراقبة متطورة للحكومات حول العالم.
80 صحافياً يمثلون 17 مؤسسة إعلامية من حول العالم، بينها موقع “درج”، عملوا لإنتاج سلسلة التحقيقات هذه.
وحدهما رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط من الصف الأول من السياسيين اللبنانيين، لم يظهرا في التسريبات التي زودت forbidden stories وسائل الإعلام الدولية بها، حول عمليات تنصت على الهواتف من قبل دول 10 دول من بينها الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية المتحدة، باستثناء محاولة واحدة على هاتف منزل بري في المصيلح. أما من تبقى من الطبقة السياسية، فكلهم كانوا خاضعين للتنصت بحسب هذه التسريبات التي شملت 47 دولة و50 ألف رقم هاتف. وفي وقت شملت محاولات التنصت هاتفاً نُسب لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، لم نستطع التأكد من صحته.
جرت محاولات للتنصت على نحو 300 رقم هاتف في لبنان، معظمها لسياسيين، لكن شملت أيضاً صحافيين وناشطين ورجال أعمال بعضهم على صلة باستثمارات في دول الخليج. واستطاع الفريق العامل في التحقيق من التأكد من عشرات الأرقام، إلا أننا لم نتمكن من اجراء الفحص الجنائي لأي هاتف لبناني، علماً أن تأكيد نجاح محاولة الاختراق لا يمكن تأكيدها إلا بعد إجراء الفحص الجنائي. ومن سنشير لأرقامهم هنا هم من تأكدنا من أنها تعود إليهم.
التسريبات التي شاركتها مؤسسة Forbidden stories مع 80 صحافياً من 17 مؤسسة إعلامية من 10 دول، من بينها موقع “درج”، بدعم تقني من منظمة Amnesty International Security Lab والمتعلقة باستعانة عدد من الدول والأنظمة ببرنامجPegasus الذي تنتجه شركة NSO الإسرائيلية، لمحاولة التنصت على سياسيين ونشطاء وصحافيين وأمنيين، تكشف حجم الانشغال الخليجي، وتحديداً الاماراتي بلبنان. المفارقة في التنصت تبلغ ذروتها في حالة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ذاك أنه، الشخصية اللبنانية الأكثر ارتباطاً بالخليج وعلى رغم ذلك كان هاتفه عرضة لمحاولة خرق إماراتية أولاً ثم سعودية، علماً أن الرجل سليل عائلة بدأت حياتها السياسية والعامة بوصفها ممثلة للنفوذ السعودي في لبنان، وتتمتع بعلاقات قوية واستثمارات تجارية مع الامارات العربية المتحدة. لكن في المقابل فإن السنوات التي يشملها جدول التنصت تؤشر إلى أن العملية كانت تجري على وقع اضطراب علاقة الحريري بالسلطات السعودية، ومن ضمنها المرحلة التي تم احتجازه فيها في الرياض في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وأجبر خلالها على تقديم استقالته من هناك. علماً أننا اتصلنا بمكتب الحريري فلم نحصل على تعليق على هذه المعلومات.
لكن النشاط التنصتي، لم يشمل الحريري عام 2017 بحسب التسريبات، واقتصر في ذلك العام على هواتف نواب من “حزب الله” مثل علي فياض وحسن فضل الله، عبر محطات NSO العائدة للإمارات العربية المتحدة وليس السعودية. فيما كان عام 2018 هو عام محاولة التنصت على الحريري ومساعديه مثل مدير مكتبه في حينها نادر الحريري، والمنشقين عنه مثل وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق الذي علق ضاحكاً لدى سؤالنا له ما إذا كان لديه تعليق على محاولة استهداف هاتفه: “أشكرهم على الاهتمام”.
لكن المنظومة السياسية اللبنانية كلها، التي يعتبر الحريري جزءاً منها، كانت تحت الرقابة ومحاولات التنصت بحسب التسريبات، وهي تنشط مستهدفة السياسيين بفترات زمنية واحدة تقريباً، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الفترة الزمنية التي لحظتها التسريبات هي بين العامين 2017 و2019. فتمكن مثلاً ملاحظة الوقت الذي خضع فيه الحريري لمحاولة التنصت هو نفسه الوقت الذي خضع فيه هاتف وزير الخارجية الأسبق ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل أيضاً لمحاولة تنصت. الأمر نفسه يصح على هاتف رئيس “حزب القوات اللبنانية” سمير جعجع المعروف بقربه من السعودية والامارات (لم يشأ مكتب جعجع التعليق على التسريبات). وهذا ما يؤشر إلى أن عمليات التنصت كانت تجرى على وقع حدث يتداول به ويتفاوض حوله زعماء الأحزاب والطوائف في لبنان. وهنا تمكن ملاحظة كشف التسريبات تعرض هاتف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للتنصت الإماراتي في الفترة التي باشرت فيها المصارف اللبنانية تنفيذ capital control غير قانوني على ودائع اللبنانيين وغير اللبنانيين.
الأرجح أن يخلف هذا الكشف مشاعر لدى اللبنانيين أنهم حيال تنصت أشرار على أشرار، لا سيما في هذا الوقت الذي يعيش فيه اللبنانيون أسوأ أيامهم على يد طبقة سياسية خضعت بدورها لتنصت من قبل رعاة وخصوم إقليميين وعبر تكنولوجيا إسرائيلية.
وأمام هذه الحقائق قد يبدو صعباً أن يغبط المرء المتنصتين على طبقة سياسية موغلة في فسادها، حال معاينته أرقام هواتفهم في تسريبات بيغاسوس. فهنا مثلاً يحضر تساؤل عما إذا كانت التحويلات المالية إلى المصارف الخارجية والتي ترافقت مع الـcapital control، والتي أكدتها البنوك السويسرية، جزءاً من المعلومات التي كشفها التنصت للسلطات السعودية على رياض سلامة، لا سيما أن جزءاً من الودائع في لبنان يعود لمواطنين من الإمارات والخليج.
تتأثر محاولات التنصت بحرارة السجال الداخلي اللبناني، وعلى وقع الانقسامات العتيدة التي شهدها لبنان خلال السنوات ما بين 2017 و2019، لا سيما أن من كان عرضة للتنصت الخليجي من بين المسؤولين في “حزب الله” هو نفسه من يتولى قنوات المفاوضة باسم أمين عام الحزب، أي مسؤول وحدة الارتباط الحاج وفيق صفا، إذ خضع هاتف الرجل للتنصت في الفترة الممتدة من شهر آذار/ مارس 2017 إلى شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته. لكن ما يعزز الاعتقاد بحرارة الانشغال الخليجي بالشأن اللبناني، هو شمول عمليات التنصت سياسيي الفئة الثانية، ومن بينهم وزراء ونواب وأحياناً رجال أعمال، ناهيك بصحافيين وأصحاب مؤسسات إعلامية ونشطاء في الشأن العام.
وفي هذا السياق، لم ينج أصدقاء دول الخليج من التنصت الاماراتي والسعودي، فوزير الدفاع السابق الياس أبو صعب (التيار العوني) القريب من الامارات ظهر رقم هاتفه في التسريبات، وسلفه يعقوب الصراف أيضاً، وكذلك نائب رئيس الحكومة السابق غسان حاصباني (قوات لبنانية).
ويأتي بعد رئيس الحكومة سعد الحريري، لجهة دلالة محاولات التنصت على هواتفه، مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم بحسب ما ظهر من معلومات لدى Forbidden Stories، ذاك أن الرجل لطالما كان صلة وصل بين أطراف يصعب جسر العلاقة بينها من دونه. تربطه بدول الخليج علاقات قوية، وفي الوقت نفسه يعتبر من المقربين جداً من “حزب الله”، وهو اشتغل على ملفات سياسية وأمنية شديدة الحساسية، ما اعتبر مقدمات لتصدر سياسي وشيك ينتظر الرجل.
وينافس عباس إبراهيم في محاولات التنصت على هاتفه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، واللافت أن رقم باسيل يظهر في التسريبات مترافقاً مع ظهور رقم سعد الحريري، وهو ما قد يؤشر إلى أن الرياض وأبو ظبي كانتا معنيتين بما ربط بين الحريري وباسيل من علاقات، لا سيما في مرحلة “الحب” التي جمعتهما، وهي من العوامل الرئيسة في اضطراب علاقة الحريري بالرياض. وهو ما يعني أيضاً احتمال أن تكون محاول الاستهداف الالكتروني قد شملت محادثاتهما معاً.
لكن أيضاً وفي السياق اللبناني لتسريبات Forbidden stories، لا بد من ملاحظة اقتصار التنصت على سياسيي “حزب الله” في وقت من الصعب البحث عن أرقام لأمنييه وما اذا كانت أرقامهم مدرجة، ومن المرجح ألا تكون موجودة، ذاك أن التكنولوجيا الإسرائيلية تعي أن هذه ليست مهمة دول كالإمارات والسعودية، فهي بحسب التسريبات لم تشمل أرقاماً ايرانية. هذا الافتراض يعود ليضعف عندما نعلم أن تنصتاً على معظم قادة فصائل “الحشد الشعبي” في العراق، لا سيما الفصائل الولائية، قد حصل فعلاً، بحسب ما وثقت التسريبات، وعلى رأسهم أبو مهدي المهندس الذي قضى بغارة أميركية بالقرب من مطار بغداد.
يبقى أن الصحافيين والنشطاء المدنيين اللبنانيين كانوا أقل إثارة لفضول المتنصتين الخليجيين، واقتصر الفضول هنا على الاماراتيين، فباستثناء صحافيين مقربين من “حزب الله” مثل رئيس تحرير جريدة “الأخبار” إبراهيم الأمين ومدير تلفزيون الميادين غسان بن جدو (لم نتمكن من تأكيد الرقم)، ظهرت أرقام لصحافيين مثل الكاتب والصحافي يوسف بزي (موقع المدن الممول من قطر) الذي لم يستغرب ورود رقمه لأنه صحافي عربي، و”أي صحافي عربي هو خصم محتمل لأي نظام عربي”. كما شملت محاولات التنصت أسماء من الصعب تفسير دوافع مراقبتها، مثل التنصت على هاتف صاحب تلفزيون “الجديد” تحسين خياط وعلى رئيسة مؤسسة سمير قصير جيزيل خوري (كانت في حينها تعمل في بي بي سي)، وعلى هاتف مراسل “نيويورك تايمز” في بيروت بن هابرد الذي كان سبق أن تعرض لمحاولة تنصت تم الكشف عنها في العام 2018.
المصدر: درج
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع