تسريبات جديدة ينشرها “درج” تباعاً مع 17 وسيلة إعلام دولية تتعلق بتكنولوجيا بيغاسوس الاسرائيلية للتجسس. هل سيتغاضى العالم بعد هذا الكشف?
إسرائيل تبيع الشر لمعظم الأنظمة غير الديموقراطية في العالم.
“السلعة” التي بين أيدينا ملفات هائلة عنها، هي ما فاض عن شرور المؤسسة العسكرية والأمنية الاسرائيلية في سياق حربها على الفلسطينيين. هذه ليست فكرة أو استنتاجاً، فما ساقنا إلى هذا القول هذه المرة هو تسريبات شاركتها مؤسسة “قصص محظورة” أو Forbidden Stories، مع 80 صحافياً من 17 مؤسسة إعلامية من 10 دول، من بينها موقع “درج”، بدعم تقني من منظمة Amnesty International Security Lab.
التسريبات تكشف تنصتاً تمارسه عشر دول، من بينها دول ذات أنظمة غير ديموقراطية وتعوزها الشرعية الشعبية في المنطقة والعالم، على 50 ألف هاتف لسياسيين ونشطاء ومعارضين وصحافيين ورجال أعمال وحقوقيين ودبلوماسيين. واستعانت الأنظمة بتكنولوجيا تدعى Pegasus، أنتجتها الشركة الإسرائيلية NSO.
تم التحقق من مئات الارقام وخضعت عشرات الهواتف لتحليل جنائي للتأكد مما إذا كان تم اختراقها، علماً أن هناك آلاف الأرقام لا تزال مجهولة لجهة هوية أصحابها وسبب استهدافها، فورود رقم واسم الشخص المستهدف لا يعني أنه قد اخترق فعلاً ما لم يتم الكشف الجنائي على الهاتف نفسه وهذا لم يكن أمراً يسيراً خصوصاً أن شريحة المستهدفين كانت واسعة جداً.
المعلومات التي يكشفها هذا المشروع الصحافي، الذي أطلق عليه “مشروع بيغاسوس” مذهلة عن عالم المتنصتين والمتنصت عليهم برعاية إسرائيلية، علماً أن الأمر لا يرتبط إطلاقاً بالحاجات الأمنية للدولة العبرية، بل بانعدام الحساسية الأخلاقية للقائمين على هذه التكنولوجيا، وبضربهم عرض الحائط ما نجم عن بيعهم هذه التكنولوجيا من مآسٍ، ومن إعاقتهم مساعي التغيير والتقدم لدى دول ومجتمعات تولت Pegasus مساعدة الأنظمة على قتل طموحات أصحابها.
إنها “الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”! هذا ما تعرّف إسرائيل نفسها به، وهذا ما يقتنع به جزء كبير من الرأي العام الغربي. لكن بعد هذا الكشف سيكون للعالم حديث آخر مع هذا الكيان، ذاك أننا لسنا وحدنا في الشرق الأوسط، الذين تستهدفهم التكنولوجيا التي وافقت وزارة الدفاع الإسرائيلية على بيعها لأنظمتنا السياسية لكي تتنصت علينا. الوثائق تكشف أيضاً أن إسرائيل أتاحت التنصت على دول غربية كبرى. على رؤسائها وعلى ديبلوماسييها ورجال أعمالها. أما نحن، فدائرة المُتَنصت عليهم من بيننا كانت أوسع.
“الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” تبيع تكنولوجيا شيطانية تتولى أكل هواتفنا. رسالة تصل إلى هاتفك، والمهمة لا تشترط أن تفتحها لكي تصبح مراقباً. مجرد وصولها يكفي لكي يصبح جهازك ملك المتنصت. “once it’s on your phone it’s no longer your phone” . أظهرت تسريبات لملفات NSO أن الشركة باعت التكنولوجيا لدول مثل المكسيك والمغرب والسعودية وأذربيجان والإمارات العربية المتحدة والبحرين، ناهيك بحلفاء إسرائيل في أوروبا مثل المجر.
شاليف هوليو وهو شريك مؤسس في NSO رد على رسالة أرسلت من قبل كونسورتيوم أو تحالف الصحافيين المشاركين بهذا التحقيق. فبعد تلقيه الرسالة، أي قبل أسبوع من اليوم، حاول نفي إشراف وزارة الدفاع الإسرائيلية على عمل شركته، وقال في رده على الرسالة: ” أنت تؤكد بشكل خاطئ أن NSO قد برمجت أنظمتها لتبيعها لعملاء حكوميين، ولديها وصول إلى بيانات أهداف عملائها. بالإضافة إلى ذلك، أنت تدعي زوراً أن الحكومة الإسرائيلية تراقب استخدام أنظمة عملائنا. هذا نوع من نظرية المؤامرة التي يستخدمها النقاد ضدّنا. بعد هذه الإدّعاءات، يتوقع منكم القراء بشكل طبيعي أن تقدموا إثباتات. بدلا من ذلك، يبدو أنكم تقومون ببساطة بتعزيز سرديّة تشهروا فيها بمجموعة NSO ، وهو أمر جرى الإعداد له بشكل استراتيجي من قبل مجموعات لها مصالح خاصة”.
حجر الرحى في كشفنا الصحافي الجديد يتمثل بما تمثله إسرائيل في ظاهرة التنصت، ذاك أن معظم الأنظمة التي اشترت Pegasus، فعلت ذلك لوظائف تتعلق بتحصين مواقع أهل السلطة فيها. الرئيس الآذربيجاني الهام علييف تنصت على هواتف معارضيه، ومن بينهم بيرم محمدوف الذي قضى “انتحاراً” في بحر إسطنبول أثناء فترة التنصت عليه، والأمن السعودي تنصت عبر التقنية ذاتها على هواتف مقربين من الصحافي السعودي المغدور جمال خاشقجي وعلى هاتف خطيبته قبل أن يقتل في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، والإمارات تنصت على الحقوقي أحمد منصور قبل اعتقاله وسجنه، والنظام المغربي استعان بـPegasus لكي يبتز صحافيين ونشطاء بحياتهم الخاصة.
تتقاطع كل هذه الموبقات وغيرها العشرات عند التكنولوجيا الإسرائيلية المشرعة بقانون من الكنيست والتي تشرف على بيعها وزارة الدفاع الإسرائيلية، ويتولى فتح الأبواب لزبائنها جنرالات سابقون في الجيش الإسرائيلي .
هل تحتكر اسرائيل التنصت على إيران؟
لكن الغريب في هذا الكشف الصحافي الاستثنائي أننا لم نعثر على أثر لهاتف إيراني مُراقب، على رغم أن التكنولوجيا تم بيعها لخصوم إيران الأشداء في الإقليم، كالسعودية والامارات وأذربيجان! والتفسير الوحيد الذي قد يبدو منطقيا هو أن إسرائيل وحدها تريد أن تحتكر التنصت على الإيرانيين، ولا تريد أن تشارك دولاً أخرى بمعلومات قد يتم تحصيلها من التنصت، لكن يبقى ما توصلنا إليه من باب التوقع والتكهن ولا أدلة تحسمه. وهذا الاستنتاج يردنا إلى ما سبق أن أشار إليه مصدر عسكري أرمني عندما كشف عن أن طائرة استطلاع إسرائيلية كانت تعمل لمصلحة الجيش الآذربيجاني أسقطها الجيش الأرميني خلال حرب كاراباخ، ثبت أن معظم التسجيلات والصور فيها هي لمواقع إيرانية على الحدود مع ناغورنو كاراباخ.
لكن عدم عثورنا على أرقام هاتف إيرانية مراقبة لا يعني أن حلفاء إيران في الإقليم كانوا خارج عمليات التنصت، فمعظم حلفاء إيران في لبنان وفي العراق وفي اليمن وفي قطر شملتهم عمليات التنصت الخليجية، من زعماء وسياسيين وأمنيين وإعلاميين. وإذا كان خصوم الإمارات والسعودية هدفاً بدهياً للتنصت، فإن حلفائمها كانوا عرضة للتنصت على نحو يفوق بكثافته التنصت على خصومهم من حلفاء إيران. يصح هذا الأمر على لبنان والعراق، لكنه أيضاً يصح على مصر وعلى اليمن. وهنا أيضاً تحضرنا حقيقة موازية، فبما أن الوظيفة الرئيسة لهذا المشروع الصحافي هي كشف الانتهاكات التي تمارسها الأنظمة القمعية بحق خصومها من النشطاء، فإن ذلك يبقى بالنسبة إلينا في الشرق الأوسط غير شاف طالما أنه يقصر الفضح على جزء من المرتكبين ممن اشتروا هذه التكنولوجيا، في وقت لم يسعف هذا الكشف الباحثين عن الجرائم التي ارتكبها حلفاء ايران في العراق من هشام الهاشمي وصولاً إلى إيهاب الوزني، ناهيك بلقمان سليم في لبنان وقبله عشرات عمليات الاستهداف التي طاولت نشطاء وصحافيين وسياسيين في لبنان.
نحن هنا أمام لاعب رئيسي في دورة التنصت القذرة هو إسرائيل، وإذا كان هذا الأمر غير جديد على تل أبيب منذ مساهمتها في مساعدة المخابرات المغربية على اغتيال السياسي الديموقراطي المهدي بن بركة في باريس عام 1966، واعتراف رئيس الموساد في حينها مئير عميت بذلك قائلاً: “لا يعنينا أن يبقى بن بركة على قيد الحياة. ما يعنينا هو مساعدة الحسن الثاني على حماية العرش بعدما ساعدتنا المخابرات المغربية على التنصت على معظم الزعماء العرب خلال القمة العربية عام 1965″، فإن الجديد هو أن الموبقة الإسرائيلية امتدت لتشمل دولاً غربية سيتم الكشف في هذا الملف عن أنها استهدفت بأعلى مستوياتها بعمليات التنصت، هذا ناهيك بكارتيلات المخدرات في المكسيك التي تورد سمومها إلى المجتمعات الغربية، التي استفادت من تكنولوجيا NSO.
ولعل ما يلفت في تقنية التنصت الإسرائيلية إتاحتها فرصة الابتزاز الجنسي الذي مارسته أنظمة مثل المغرب وآذربيجان، لا سيما بحق صحافيات وصحافيين وناشطات ونشطاء، تم اختراق هواتفهم وقرصنة صور وفيديوات، عادت الأنظمة واستعملتها للضغط عليهم، لا بل أنها في أكثر من حالة نشرتها للنيل منهم. وهذا حصل طبعاً بعلم الشركة الإسرائيلية التي تجري عمليات التنصت والقرصنة تحت اشرافها التقني.
وإذا كان ثمة دول لم يثبت شراؤها تكنولوجيا التنصت الإسرائيلية مثل تركيا مثلاً، إلا أن احتمال استفادة السلطة فيها من هذه التكنولوجيا بشكل غير مباشر تبقى قائمة، لا بل مرجحة، فالنظام التركي يملك نفوذاً كبيراً في آذربيجان، والأخيرة تعتبر السلطة فيها من أكبر زبائن NSO وهي تنصتت على نشطاء ومعارضين آذريين يعيشون في تركيا، وهذا حصل على الأرجح بعلم السلطات التركية، لا سيما أن العلاقات العسكرية والأمنية والتبادلات التجارية بين باكو وتل أبيب تمر عبر أنقرة.
أما شاليف التي انهالت ردوده علينا بعد الرسالة التي وصلته، تارة منه مباشرة وطوراً عبر مكتب محاماة يمثله في الولايات المتحدة الأميركية، فقدم تعريفاً لشركته تقتضي الدقة المهنية عرضه، لكنه أيضاً كاشف لما قد يحدثه هذا التحقيق من إرباك لتكنولوجياه، فهو ختم رسالته لنا بما يلي: “الحقيقة هي أن تقنيات مجموعة NSO ساعدت في منع الهجمات الإرهابية والعنف المسلّح وانفجارات السيارات والتفجيرات الانتحارية. كما يتم استخدام التقنيات كل يوم لكشف عصابات الاعتداء الجنسي على الأطفال والجنس وتهريب المخدرات، وتحديد أماكن الأطفال المفقودين والمختطفين، وتحديد أماكن الناجين المحاصرين تحت المباني المنهارة، وحماية المجال الجوي من الاختراق التخريبي للطائرات من دون طيار. ببساطة، تقوم NSO Group بمهمة إنقاذ الأرواح، وستقوم الشركة بتنفيذ هذه المهمة بأمانة ومن دون رادع، على الرغم من جميع المحاولات المستمرة لتشويه سمعتها على أسس زائفة”.
نبدأ اليوم نشر قصصنا على نحو موازٍ في 17 وسيلة إعلامية، وبلغات العالم الرئيسية، على أن نكرر أن المهمة الرئيسة من وراء هذا الكشف هي فضح الانتهاكات التي استهدفت الفاعلين الجدد في الرأي العام ممن وظفت الأنظمة إمكاناتها لقمعهم وقتلهم وطردهم من بلادهم، وهؤلاء قبل السياسيين، سنعطيهم الأولوية في قصصنا.
المؤسسات الإعلامية المشاركة في “تسريبات بيغاسوس”:
Forbidden Stories – Le Monde- Suddeutsche Zeitung -Die Zeit – Washington Post – The Guardian -Daraj – Direkt36 – Le Soir – Knack-Radio France – The Wire – Proceso – Aristeui Noticias – OCCRP- Haaretz – PBS Frontline
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع