لكن هذا السقوط لا يعني أنه تم مقابل قوى تغيير جاهزة لأخذ البلاد إلى وضعية أخرى. الخصوم، سواء من طينة القوى السياسية نفسها أو من المجموعات التي تطلق على نفسها اسم المجتمع المدني، ليست غالبيتها، في حقيقة الأمر، سوى خلايا تريد أن تحل مكان الفريق الذي مثّل سعد الحريري رمزه الأوضح. وهذه القوى سبق أن مرت على كل مرافق النادي الذي حكمه الأميركيون والسوريون والسعوديون منذ ثلاثين سنة. مرت على الحكومات والمجالس النيابية، وعلى المؤسسات المالية والمصرفية والاقتصادية، وعلى المرجعيات الدينية وعلى مؤسسات القطاع الخاص نفسه، وأيضاً على السفارات والقنصليات والمراكز الأمنية نفسها من عوكر إلى عنجر ذهاباً وإياباً.
اليوم، تقف البلاد أمام الجدار. بيننا من يتفنن في وصف الأزمة. تارة انهيار كبير، وطوراً انهيار متسارع، ثمة انفجار عنيف أو ارتطام كبير… الخ من التوصيفات التي لا تفيد في قول أمر واحد: ما هو بديلكم؟ هل تسليم السلطة لرجال آخرين يعني أن الأزمة حلت. لنقم بهذا التمرين، ماذا سيكون موقف كل خصوم الفريق الحاكم من الآتي لو تسلموا السلطة:
– هل سيتم اعتماد انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي؟
– هل سيتم وقف العداد ومعه وقف لعبة التوازن الطائفي والمذهبي؟
– ماذا سيكون موقف هؤلاء من مواقف وتصرفات الدول المحيطة القريبة أو البعيدة، من سوريا وإيران إلى السعودية ومصر وفرنسا وبريطانيا وأميركا… وقبل كل ذلك، كيف سيتولون حل مشكلة وجود إسرائيل؟
– هل سيعيدون الاعتبار إلى دولة الرعاية ويستعيدون ما نهب من قبل الجميع، مواطنين ومسؤولين ومراجع سياسية ودينية واقتصادية وخلافه، وهل سيلغون السرية المصرفية ويقفلون باب تهريب العملات إلى لبنان وليس إلى خارجه، وهل سيفرضون نظاماً ضريباً يجبر الناس على سلوك استهلاكي مختلف عما هو عليه الأمر اليوم؟
– هل بين هؤلاء من هو مستعد للتصريح علناً عن كل تواصل سياسي أو مالي أو إعلامي أو خلافه بينه وبين أي جهة خارجية، وهل هم مستعدون للتصريح ليس عما يملكونه في لبنان بل ما يملكونه في الخارج أيضاً.
– هل يقبل هؤلاء بإعادة البحث في أساس الجامعات الأجنبية ودورها في تجاوز الحاجات الأكاديمية في لبنان وإعادة الاعتبار إلى التعليم العام، سواء من ناحية الموازنات أو من ناحية الإدارة وإعداد الكوادر؟
– هل يقبل هؤلاء بأن تسير جرافات ضخمة على طول الشاطئ وتعمد إلى إزالة كل أنواع المخالفات القميئة، بمعزل عن حجمها ونوعها وطبيعتها وهوية القائم بها؟
– هل يقبل هؤلاء بأن لا يتم اختيار حاكم لمصرف لبنان أو قائد للجيش أو لقوى الأمن الداخلي من قبل المؤسسة السياسية حصراً من دون الاستناد إلى معايير مهنية لا تقف لحظة عند الاعتبار الطائفي والمذهبي؟
ستكون هناك أسئلة كثيرة وكثيرة، وسيكون من البساطة للآخرين أن يجيبوا بنعم من دون أن يشرحوا لنا أدوات العمل لتنفيذ هذه الوعود، وسيكون من البساطة للآخرين أن يردوا بأن هذه أمور مستحيلة قد تقلب لبنان نحو فوضى وحرب أهلية، وطبعاً سيخرج من عباءة السارقين في صفوف السلطة أو المعارضة من يقول إن المشكلة هي في الإدارة فقط، عدا عن أن كثيرين سيقولون: نعم هناك تدخل خارجي لكن الأولوية لمواجهة الفاسدين المحليين… والأولوية عند هؤلاء تعني عملياً عدم الإشارة مرة واحدة إلى تدخل سفارات الموت الغربية. وهل يُتوقع من هؤلاء الذين يتوقون للحصول على فيزا إلى باريس أو تمويل لجمعية وهمية من سويسرا أو طلب هجرة إلى كندا أو رحلة علم أو عمل إلى أميركا… أن ينتقدوا هذه العواصم؟ وكيف ستكون حالهم إذا سألناهم عن موقفهم من العصابات التي تغتصب الجزيرة العربية وتسرق ثروات شعوبها؟ هل يعرف اللبنانيون أن من بينهم من خاف أن يرفع هاتفه ليسأل جاره اللبناني إن كان سمع انفجاراً في دبي الأسبوع الماضي؟
اليوم، ليست المشكلة في رفع شعارات التغيير، ولا في تركيب اليافطات وترفيع الأسماء وتأهيل المرشحين وإعداد آليات العمل التي لا تختلف البتة عن كل ما فعله السابقون.
المشكلة هي في كون الانقسام يأخذ أبعاداً أكثر خطورة، لأن الجميع يهرب من السؤال المركزي حول أي لبنان يريدون؟ هل بين هؤلاء جميعاً من يتجرأ على القول بأنه يريد نسف البلاد التي خلقها الاستعمار، بالتالي يدلنا على طريقة لإعادة بناء ما يعتبره دولة، وليست سوى مسخ له عمره الافتراضي.
خبر اعتذار الحريري لم يكن سوى نكتة سمجة، وكل حكايته تافهة من ألفها إلى يائها، وكل تبريراته لا تدل إلا على العدم الذي لا يؤمل منه خيراً مع الأسف. هذا شاب يستحسن أن يعفو عنه محمد بن سلمان ويعيده إلى ديوانه ليفعل هناك ما يريد.
لكن الأكثر تفاهة، هو خبر اكتساح فكرة التغيير للبلاد، والذين يحاولون تجاوز البعد القطاعي الأساسي في انتخابات نقابة المهندسين، ويقدمون البعد الهوياتي الوطني، هم أنفسهم الذين نفوا عن الحراك الحقيقي في بدايات الربيع العربي صفته الوطنية وحصروه في لعبة الرغيف والقمع… وهؤلاء، ليس عندهم من قدرة على بناء شيء… هكذا هو تاريخهم البعيد والقريب.
الكارثة هي التي تكتسح هذه الأيام. وليس أي شي آخر!