جوزفين ديب – أساس ميديا
من بوابة الفاتيكان هذه المرّة يُلقى حبل النجاة. ليس لأيّ سبب سوى لأنّه رئيس أكبر كتلة مسيحية حتى الآن، ولأنّ ميشال عون هو رئيس الجمهورية اللبنانية الماروني، مع ما لهذا الموقع من رمزية في الصيغة اللبنانية خصوصاً، وفي المنطقة عموماً.
غير أنّ حبل النجاة هذا له سياقه المنسجم مع تموضع المسيحيين التقليدي في لبنان، وليس مع الاستدارة التي قام بها عون وفريقه في السياسة المحلية والإقليمية مع توقيعهم ورقة التفاهم مع حزب الله في 2006.
هل يلتقط باسيل حبل النجاة؟ وما هو الدور الذي تلعبه بكركي؟
“لا ينفع قتال الموقع المسيحي الأول في لبنان، وإن كان يغرّد خارج السرب”، هي خلاصة نقلها مطّلعون على اجتماع روما في الأوّل من تموز. فالبابا فرنسيس حريص على أن تقوم بكركي، بصفتها الموقع الماروني الروحي الأول في لبنان، بلملمة التشتّت المسيحي الحاصل بين القوى التقليدية، ورعاية القوى المسيحية الناشئة في المؤسسات والجمعيات والمجتمع المدني. وهذا يعني الدفع نحو أن تحتضن بكركي المسيحيين، وتحديداً الموقع الماروني الأول، وتؤمّن المظلّة له ليعود إلى السرب، حيث هو موقع الموارنة التقليدي في لبنان.
وانطلاقاً ممّا سبق، للبطريركية المارونية مقاربة جديدة عادت بها من روما، أوّلاً في العمل بجدّيّة أكبر عبر المؤسسات المارونية، وثانياً في العلاقة مع رئاسة الجمهورية.
فكيف تنعكس هذه المقاربة على علاقة بكركي بفريق رئيس الجمهورية بعدما تردّت العلاقة بينهما في الأشهر السابقة إلى حدٍّ كبير؟ وكيف تنعكس هذه المقاربة على علاقة فريق رئيس الجمهورية بحزب الله؟
تعاطف الصرح الماروني مع الرئيس المكلّف، الذي تغنّى به الرئيس سعد الحريري لأشهر عدّة، قد ولّى. فهو بدأ بالانحدار منذ أن ماطل الحريري في تقديم إجابات واضحة على مسائل حكومية، كانت بكركي تتابعها يوم كانت تبادر حكومياً. وبكركي الحريصة على علاقات مميّزة مع المملكة العربية السعودية، أدركت أيضاً الموقف السعودي الرافض للحريري، وتراجع التمسّك الدولي به، وتحديداً الأوروبي.
غير أنّ الأهمّ في هذه التقاطعات هو ارتباط توجُّه بكركي بمضمون لقاء الأوّل من تموز في الفاتيكان. ففي المعلومات التي رافقت خلاصات اجتماع البطاركة مع البابا فرنسيس من أجل لبنان، تبيّن أنّ الحبر الأعظم فاتح الرئيس الأميركي جو بايدن بأهميّة العناية بالمسيحيين في لبنان، وأهميّة الحفاظ على تموضعهم الداخلي في النظام اللبناني، أيّاً كان هذا النظام. وطلب من الأميركيين التدخّل لمساعدة لبنان على مواجهة الانهيار الحاصل فيه. ووفقاً لخلاصات الاجتماع الفاتيكاني، فإنّ الحبر الأعظم شدّد أمام البطاركة، وتحديداً الماروني، على أهميّة احتضان القوى المسيحية اللبنانية، ومحاولة الدفع نحو عدم خوض القوى السياسية حروب إلغاء سياسية فيما بينها. وتحديداً في هذا الإطار، تمحور الكلام حول دور رئاسة الجمهورية، وأهميّة حصولها على رعاية لِما لهذا الموقع من رمزية مسيحية، ليس فقط في لبنان، بل وفي المنطقة.
وفي هذا السياق، لا يغيب حزب الله ودوره ومجموعة الإشكاليات الناتجة عن العلاقات بينه وبين التيار الوطني الحر. فتحالف الرئيس ميشال عون مع حزب الله حاضر دائماً في النقاشات التي تتناول خيارات القوى المسيحية في العقد الأخير. وقد خلصت هذه النقاشات إلى محاولة دفع فريق رئيس الجمهورية إلى تموضع جديد في المشهد السياسي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ خطوة كهذه تحتاج إلى وقت ومسار تراكمي، ولن تحصل بين ليلة وضحاها، وأنّ أيّ مقاربة جديدة سيقوم بها التيار الوطني الحر لتحالفه مع حزب الله لن يُسمَح بأن تؤدّي إلى مزيد من العزلة السياسية، بل سيُوفَّر له ما يحتاج إليه من مظلّة. من هذا المنطلق، يدور حديث في الكواليس عن أهميّة احتضان بكركي لرئيس الجمهورية تمهيداً لمرحلة إعادة التموضع.
من المعلوم أنّ الفاتيكان لا يدخل في تفاصيل المشهد السياسي الداخلي، غير أنّ الأزمة اللبنانية وربط عهد “العونية السياسية” بحزب الله وحلفها معه ليست تفصيلاً في أيّ نقاش داخلي أو خارجي.
كلّ المؤشّرات المرافقة لاجتماع الفاتيكان تتقاطع مع ضرورة “عدم كسر الفريق المسيحي الأكبر في البلاد حتى هذه اللحظة”، لأنّ في انكساره رمزية قاسية على
المسيحيين، ولا سيّما في النظام الطائفي الذي حكم البلاد بعد الهزائم العسكرية التي مُنِي بها المسيحيون في الحرب اللبنانية.
عليه، ستحتفظ بكركي بعناوينها، إضافةً إلى الحفاظ على صلاحيّات رئيس الجمهورية ميشال عون، انطلاقاً من موقعه الرئاسي، ومن كونه الأب الروحي لأكبر كتلة نيابية مسيحية. أمّا رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل فسيكون أمام فرصة إعادة احتضانه مسيحياً، بعد مجموعة من الخسائر التي ألمّت به بعد 17 تشرين الأول 2019، وذلك مقابل إعادة تموضعه في الساحة الداخلية.
فباسيل، الذي يقول إنّه رفض عروضاً أميركية مقابل فكّ تحالفه مع حزب الله، يشهد اليوم مساراً دولياً، يبدأ في الفاتيكان ويُستكمل في عواصم القرار، يقود حتماً إلى واقع جديد مقبل على المنطقة.
قد يعتبر البعض أنّ باسيل سبق أن بدأ إعادة التموضع في العلاقة مع حزب الله، وإن كان عجز عن أن يفعلها كما طلب منه الأميركيون، لكنّه ذاهب إليها حتماً بحكم التوازنات المقبلة على المنطقة، وبحكم طبيعة تموضع المسيحيين تاريخياً في البلاد، والسياسة التي انتهجوها.
أمّا البعض الآخر فيرى في كلّ هذا المسار محاولة ستفشل حتماً لأنّ مَن قرّر الذهاب في تحالف مع حزب الله وراعيه الإيراني، قد قطع تذكرة ذهاب لا إياب لها.
عام 2011 تسرّبت وثائق ويكيليكس التي كشفت قناعة جبران باسيل بتموضعه مع حزب الله. أفلا يزال يحافظ باسيل على موقفه هذا في جلساته الداخلية؟ ربّما علينا أن ننتظر ويكيليكس آخر.