“لن نسمح بحزب الله جديد في اليمن” هكذا صرح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لوكالة بلومبيرغ الأميركية عام 2018م، وشدد على أن الأمر خط أحمر للعالم وليس للسعودية فحسب. وأضاف: “لا أحد يريد وجود حزب الله في مضيق يمرُّ من خلالها حوالي 15 بالمائة من التجارة العالمية”.
لم يكن التصريح الأول من نوعه، سبقته وأعقبته الكثير من التصريحات السعودية والإماراتية، ويرتبط جوهرها بواحد من أهم أهداف العدوان والحصار المتواصل للعام السابع، وكان الرد عليها بجملة مقابلة: “لن نسمح بإسرائيل أخرى بجانب اليمن”.
يقول المثل الشائع: “الطيور على أشكالها تقع”، والسعودية ترى نفسها أبعد عن التقارب مع حزب الله، بعكس مسارعتها للتقارب مع تل أبيب، ويكاد أن يصل هذا التقارب إلى حد التحالف العسكري والأمني العلني وليس السياسي فحسب! وكان المطلوب من اليمن، لولا ثورة 21 أيلول/سبتمبر 2014م، أن ينخرط ضمن هذا التحالف، إنما بانتصار الثورة وسقوط الهيمنة السعودية الأمريكية تحول اليمن من محور التطبيع إلى محور المقاومة.
حزب الله سادة المجاهدين
قبل 19 عامًا، وفي الوقت الذي كان فيه الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي يضع اللبنات الأولى لتأسيس حركة أنصار الله، كانت تجربة حزب الله أمام ناظريه، وهو يقدمها كنموذج وشاهد على أن الشعوب حينما تتحرك ستنتصر. وأبرز ما قاله في هذا السياق: “من هو حزب الله؟ إنهم سادة المجاهدين في هذا العالم، هم من قدموا الشهداء، هم من حفظوا ماء وجه الأمة فعلًا. لقد ظهروا بالشكل الذي كنا نقول: (ما زال هؤلاء يحافظون على ماء وجوهنا، هم الذين حفظوا الشهادة على أن الإسلام لا يمكن أن يُهزَم).
في تقييم أنصار الله، فقد فرّطت الأمة وتخاذلت في مواجهة اليهود حين كانوا عصابات صغيرة، ثم في المرحلة الأولى لتأسيس الكيان الغاصب، وما بعدها من صراع وصولا إلى “اتفاقيات السلام”، حتى باتت المقاومة في نظر الغالبية ضربًا من الجنون، ناهيك عن أي أمل في الانتصار، وترسخت وقتها ثقافة “العين لا تستطيع أن تقاوم المخرز”!
كسرت المقاومة اللبنانية مسار الإذلال الذي طغى، وهزمت “الجيش الذي لا يقهر” عام 2000م، وأعادت تعريف الكيان مَثلُهُ كـ”بيت العنكبوت”، لكن العرب وبدلًا من إسناد هذا الانتصار، انقسموا بين متخاذل ومحارب للمقاومة. وهو موقف يعيد التذكير بالثورة الإسلامية في إيران، التي جاءت – كما يعتبرها السيد حسين الحوثي- لإسناد العرب وإزالة الغدة السرطانية، فوقفوا بوجهها وحاربوها، وأضاعوا فرصة ثمينة كانت كفيلة بتحرير فلسطين، وتحرير المنطقة ككل من الهيمنة الأميركية!
في تلك المرحلة، كان اليمن رسميًا مؤيدًا لـ”مبادرة السلام العربية” التي أطلقتها السعودية في قمة بيروت عام 2002م، وكشفت وثائق تم نشرها مؤخرًا أن نظام علي عبد الله صالح كان على استعداد للتطبيع مع “إسرائيل” برعاية أميركية.
في المقابل كان الصوت اليمني الوحيد يصدح من جبال مَرّان في صعدة أقصى شمال البلاد، متبنيًا شعار “الموت لأمريكا” “الموت لإسرائيل”. خاض نظام علي صالح بدعم سعودي أمريكي ست حروب بين (2004-2010م)، انتهت جميعها إلى الفشل وبروز أنصار الله مكوَّنًا شعبيًا عصيًا على الإلغاء أو التهميش.
في مقاربة الانطلاقة الأولى لأنصار الله مع حزب الله، فالأخير تأسس لضرورة حتمية بالتزامن مع الاحتلال الإسرائيلي للبنان، فيما حاول السيد حسين الحوثي استباق التوجه الأميركي العدواني ضد اليمن والمنطقة عمومًا بشعار “محاربة الإرهاب”. حيث ظل يشدد على مواجهة مصطلح “الإرهاب” بشعار “الموت لأمريكا”، قائلًا: “هذا الشعار لا بد منه في تحقيق النصر في هذه المعركة، معركة أن يسبقنا الأميركيون إلى أفكارنا وإلى أفكار أبناء هذا الشعب، وإلى أفكار أبناء المسلمين وبين أن نسبقهم نحن”.
رغم طغيان الهيمنة الأميركية على اليمن لقرابة 14 عامًا منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001م، والتأسيس لوجود عسكري وأمني مباشر تحت ذريعة القاعدة، فإن وجود حركة أنصار الله أعاق الأجندة الأميركية التي كادت تنتهي إلى تقسيم اليمن لـستة أقاليم ولاحقًا دويلات متصارعة.
أنصار الله: لا لتجزئة المعركة
عام 2014م وفي ذكرى يوم القدس العالمي، المتزامن مع العدوان الإسرائيلي على غزة، كان لافتًا إعلان السيد عبد الملك بدرالدين الحوثي الاستعداد للقتال إلى جانب المقاومة الفلسطينية. وبعد انتصار الثورة في أيلول/ سبتمبر2014م، وتصدر حركة أنصار الله المشهد اليمني، فإن الموقف الواضح تجاه مشروع الهيمنة الأميركية والإسرائيلية، دفع باتجاه العدوان الخارجي لإعادة الوصاية الأجنبية، ومنع أي تحوّل في موقف اليمن بما يمتلكه من قوة بشرية وموقع جغرافي استراتيجي. وقد عبّر نتنياهو لمرات عدة عن خشية كيانه من سيطرة أنصار الله على باب المندب.
خلال السنوات الأخيرة، استند خطاب أنصار الله إلى ترسيخ مفهوم الأمة الواحدة، وعدم السماح بتجزئة المعركة، فمثلما تشكل الأطراف المعادية تحالفات علنية لمواجهة محور المقاومة، فالأولى أن يتم مواجهة ذلك بتحالفات مقابلة. لم يكن هذا الخطاب منفصلًا عن ترتيبات تجري داخل المحور، وقد لفت إلى ذلك السيد حسن نصر الله في كلمته بيوم القدس العالمي عام 2017م، عندما قال: “يجب أن يعرف الجميع أن محور المقاومة أقوى، ويجب أن يعرف العدو الإسرائيلي أنه إذا شن حربًا على سوريا أو على لبنان فليس من المعلوم أن يبقى القتال لبنانيًا إسرائيليًا أو سوريًا إسرائيليًا”. وأضاف: “هذا لا يعني أنني أقول إن هناك دولًا قد تدخل بشكل مباشر، ولكن قد تفتح الأجواء لعشرات الآلاف بل مئات الآلاف من المجاهدين والمقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي”.
بعد هذا الخطاب بقرابة شهر، جاء الجواب من اليمن، عبر خطاب متلفز للسيد عبد الملك الحوثي قال فيه: “ولذلك ينبغي على العدو الإسرائيلي أن يحسب حساب شعبنا اليمني في أي مواجهة مستجدة له مع حزب الله في لبنان، أو مع الفلسطينيين، نحن حاضرون في أي وقت يحتاج منا حزب الله، أو يحتاج منا الشعب الفلسطيني -ونتمكن من الوصول إليه- أننا حاضرون لذلك، حتى لو كنا في الوقت الذي نواجه فيه أدوات أمريكا في المنطقة، ونعيش حروبًا بفعل عدوانهم علينا، حاضرون حتى في مثل هذه الظروف أن نرسل المقاتلين للمشاركة في أي مواجهة مستجدة. يهمنا فقط أن يكون لنا تنسيق يساعدنا على ذلك”.
عاد السيد نصر الله خلال مقابلة مع تلفزيون الميادين في 4 كانون الثاني/ يناير 2018م، ليؤكد أن التصريحات المتبادلة ليست للاستهلاك الإعلامي أو للاستعراض، وقد وصلته رسالة خاصة من السيد عبد الملك الحوثي في مضمونها: “نحن جاهزون لإرسال عشرات الآلاف من المقاتلين حتى لو لم تتوقف الحرب السعودية الأميركية علينا”.
مع هذه الرسائل المتبادلة، بات واضحًا أن المنطقة أمام تحالف من نوع آخر، لا يشبه أي تحالف في هذا العالم، لا يقوم على الأطماع، ولا يسارع طرف لتحقيق المكاسب على حساب الأطراف الأخرى، تحالف لديه من الروابط الدينية والمبادئ والأهداف المشتركة ما يجعل منه أمة واحدة تتلاشى فيها العناوين الضيقة. وهذا ما يعرفه المحور الأميركي الإسرائيلي ويثير قلقه.
معادلة القدس
في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، كان موقف اليمن واضحًا من اللحظة الأولى، بالوقوف إلى جانب المقاومة وإعلان “حالة الاستعداد الكامل تجاه كل الاحتمالات والتطورات، وحسب اللازم”. رغم أن اليمن لا يزال يعيش ظرف العدوان والحصار، وهو موقف متقدم يتجاوز المواقف الباردة والتنديدات الخجولة التي تغلب على الحكومات العربية.
أتت الذكرى 21 لعيد المقاومة والتحرير بعد أيام من نهاية جولة التصعيد، أعلن السيد حسن نصر الله أن على محور المقاومة العمل للوصول إلى معادلة “المساس بالقدس يعني حربًا إقليمية”. جاء أول الغيث من اليمن بإعلان السيد عبد الملك الانخراط ضمن المعادلة وبكل فاعلية في إطار المحور. وتلا ذلك موقف كتائب حزب الله العراق.
يتضح من المواقف السابقة أن كل ما يتصل بالصراع مع العدو الإسرائيلي فهو محل تأييد ومساندة يمنية، ولم تعد الإجابة غامضة عند السؤال عن موقف اليمن من أي عدوان إسرائيلي على لبنان، كما لن تكون غامضة إذا ما قرر محور المقاومة المبادرة وخوض حرب إقليمية في إطار معادلة القدس أو أي معادلات أخرى. فقرار المشاركة اليمنية قد تم اتخاذه، لتبقى تفاصيلها خاضعة لحسابات اللحظة. والحقيقة أن المحور بات أمام مصير واحد، بما يعني أن أطرافه قد تجاوزت الالتقاء عند نقطة مواجهة العدو الإسرائيلي إلى مواجهة أي تحديات مستقبلية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع