كتب المحرّر السياسيّ-البناء
سيبقى لبنان خلال الفترة الفاصلة عن تشكيل حكومة جديدة تحت تأثير مزدوج لرياح المزيد من التدهور المعيشي، والتصعيد في الشارع، ولأن هذه الفترة إذا سار كل شيء بطريقة سلسة لن تتيح ولادة الحكومة الجديدة قبل أول أيلول، وربما يفرض التعسّر بقاء الفراغ حتى الانتخابات النيابية، فإن ما بين مهلة قصيرة كأول أيلول ومهلة طويلة كأول آذار سيكون لبنان أمام مسار انحداريّ وربما انفجاريّ، فالدولار الذي تخطى عتبة الـ 20 الف ليرة يتحفز للقفز الى عتبة الـ 25 الفاً، وسوق المحروقات التي هدأت نسبياً تستعد لدخول رفع الدعم كلياً أو بصورة مقننة مع مطلع أيلول، وتقنين الدعم بدأت مفاعيله في سوق الدواء، مع تسعيرة أصدرتها وزارة الصحة لقرابة ألفي دواء بأسعار متوسطها 50 ألف ليرة، وبالتوازي شارع ملتهب تحت إيقاع التهور المعيشي من جهة والتحريض السياسي والطائفي من جهة موازية، وبدلاً من الاحتجاجات الحاشدة والسلمية في الساحات وأمام المؤسسات المعنية بالقرار المالي والاقتصادي، ورفع المواقف والشعارات، صار قطع الطرقات هو التعبير الأشد حضوراً، مرتباً أكلافاً إضافية على آلاف السيارات التي تنتظر ساعات طويلة في سجن يصنع تحت شعار الدفاع عن الناس، وعلى خطوط تماس طائفيّة شكلت عقدة الناعمة أخطرها، حيث تحدثت المعلومات المتوافرة لدى الأجهزة الأمنية، عن مخاطر انفجار مفاجئ لا يعرف أحد حجم أضراره، بعدما نفد صبر المتنقلين بين بيروت والجنوب من العقاب الجماعيّ الذي لم يعرفوه الا في أيام الاحتلال ومعابر الذل، وهم اليوم ينفقون البنزين الذي يقفون ساعات في طوابير الذل لتحصيله، فقط لأن بعض الشبان المحميين بتنظيماتهم السياسية قرروا قطع الطريق، بينما تقف القوى العسكرية والأمنية تتفرج، ويتحدث الغاضبون من سجن الانتظار عن إهانات وشتائم يتعرضون لها وعن اعتداءات طالت المعترضين أمام القوى الأمنيّة.
تقول مصادر أمنية إنه ما لم يتم التوصل إلى حل سياسي وأمني لعقدة الناعمة فقد يحدث ما لا تحمد عقباه ويخرج عن سيطرة القيادات السياسية والقوى الأمنية، ودعت الرئيس سعد الحريري الى الطلب من القوى الأمنيّة والعسكريّة فتح طريق الساحل بالقوة ورفع الغطاء عن كل مَن يغلق الطريق.
سياسياً، كانت لافتة صدور ردود أفعال سريعة عن العواصم التي يفترض أن الصداقة تربط بينها وبين الحريري، لكن بياناتها الصادرة تجاهلت كلام الحريري عن تعطيل مهمته واتهامه لرئيس الجمهورية وفريقه بالتعطيل، فخلت من أية دعوة لإزالة العراقيل من طريقه او طريق أي رئيس مكلف يحل مكانه، مكتفية بالدعوة لتسريع الاستشارات النيابية لتسمية بديل، وأولوية ولادة حكومة جديدة، وهو ما قالته واشنطن بلسان وزير خارجيتها ما قالته باريس ببيان رسميّ وقاله مفوّض السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبيّ.
على ضفة المشاورات السياسيّة تقول مصادر متابعة للمسار الحكومي الجديد إن الاستشارات النيابيّة ربما تتم نهاية الشهر الحالي بعدما يكون التفاوض القائم على تسمية الشخصية البديلة للحريري قد بلغ مرحلة متقدّمة، وتحدّثت المصادر عن تقدّم مكانة الرئيس السابق للحكومة نجيب ميقاتي بورصة التسميات، مشيرة إلى دعم فرنسي لتسمية ميقاتي، وقالت المصادر إن هناك جملة من الشروط التي يضعها ميقاتي لقبول المهمة، منها أنه لن يتنازل عما تمسّك به الحريري حرصاً على وضعيته في طائفته، وضمان الرضا السعودي الذي لم يحصل عليه الحريري، وتعهّد دولي بتقديم مساعدات مالية كافية لمنع الانهيار، مجيباً على طلبات الداخل والخارج بأنه مثل الآخرين ذاهب الى الانتخابات، ولن يتجرّع السم الحكومي قبلها بشهور، وهو مستعدّ لتحمّل المسؤولية إذا ضمن الرعاة الداخليون والخارجيون توفير شروط كافية لعدم تحول القبول إلى انتحار سياسيّ وانتخابيّ.
لا يزال المشهد الداخلي تحت تأثير التداعيات السياسية والاقتصادية والأمنية لاعتذار الحريريّ عن تأليف الحكومة وسط ترقب لمعالم المرحلة التالية والخطوة التي سيُقدم عليها رئيس الجمهورية ميشال عون وفريق الأغلبية النيابية في ظل بدء الحديث عن مرشحين آخرين لتأليف الحكومة.
وأشارت مصادر بعبدا إلى أن الرئيس عون لا يريد إضاعة المزيد من الوقت، لكن على الكتل التشاور في ما بينها قبل تحديد موعد الاستشارات. وأضافت: الاستشارات لن تجرى قبل عيد الأضحى والفترة الفاصلة، ستكون مناسبة لإجراء الاتصالات بين الكتل التي تقع على عاتقها تسمية الرئيس المكلف الجديد. وأشارت إلى أنه لم يحصل اي اتصال بين بعبدا وعين التينة وأن الرئيس نبيه بري ينتظر أن تُقدم بعبدا على الخطوة الدستورية المقبلة.
وأكدت مصادر عين التينة لـ”البناء” أن “الرئيس بري لم يتلق أي اتصال بشأن تكليف رئيس جديد بل ينتظر رئيس الجمهورية لكي يحدد موعد الاستشارات لكي تجري الكتل النيابية مشاوراتها الداخلية لتحديد موقفها”، ورجّحت المصادر أن لا يعين عون الاستشارات قبل منح فرصة للكتل والقوى السياسية للتشاور فيما بينها ومع الكتل الأخرى”، نافية وجود اتفاق أو رسم للمرحلة المقبلة أو توافق على اسم بديل عن الحريري، مؤكدة أن الاتصالات لم تبدأ بعد والرئيس بري لم يبدأ مشاوراته بهذا الخصوص. مؤكدة بأن بري قام بما عليه لتسهيل تأليف الحكومة وبدء عملية النهوض بالبلد لكن الآخرين أجهضوا مساعيه وأوصلونا الى ما نحن عليه.
في المقابل، أكدت اوساط التيار الوطني الحر لـ”البناء” أن “الأمور في حالة ترقب والتيار الوطني الحر بدأ مشاوراته الداخلية ويجري عملية تقييم للمرحلة الماضية لتحديد موقفه من المرحلة المقبلة”، لكنها لفتت الى أن “لم تطرح أسماء بديلة للتكليف حتى الآن بانتظار المشاورات التي يقوم بها رئيس الجمهورية مع معاونيه وفريقه السياسي ومع الكتل النيابية المختلفة لتحديد موعد للاستشارات”.
وأكد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن لبنان “سيتمكن من تجاوز الظروف الصعبة التي يمرّ بها حالياً على مختلف المستويات، لأن الاحداث أثبتت ان إرادة الحياة عند اللبنانيين مكّنتهم دائماً من التغلب على صعوبات كثيرة في الماضي”، مشدداً على رهانه على “الجيل الشاب في بناء مستقبل لبنان الذي نريد”. وأشار الرئيس عون إلى ان “لا شيء يجب أن يحبط اللبنانيين على رغم قسوة ما يتعرضون له”، واعداً بـ”بذل كل الجهود للخروج من الأزمات المتلاحقة التي يعانون منها”.
وفي مجال آخر، وقع رئيس الجمهورية 24 قانوناً أقرها مجلس النواب في جلسته الأخيرة قبل أيام، وأحالها للنشر وفقاً للأصول وأبرزها قانون البطاقة التمويلية.
وتواصلت المواقف الدولية المحذرة من تفاقم الأوضاع بعد اعتذار الحريري، وعبرت الخارجية الأميركيّة عن قلقها، مضيفة أن “تحتاج الطبقة السياسية اللبنانية إلى تنحية الخلافات الحزبيّة الصغيرة جانبًا بدلاً من إلقاء اللوم على بعضهم البعض، من أجل تشكيل حكومة قادرة على معالجة الحالة المقلقة في البلاد”.
من جهته، أكد الناطق باسم الخارجية الفرنسية أن “هذا التطور يؤكد أن الأداء السياسي الذي يعتمده القادة اللبنانيون أعاق البلاد لأشهر، وجعله يغرق في أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة”. أضاف: “هناك الآن ضرورة ملحة للخروج من هذا المأزق المنظم وغير المقبول، وإمكانية تشكيل حكومة في لبنان، وهذا يتطلّب الشروع الفوري في المشاورات البرلمانية بهدف تعيين رئيس وزراء جديد في أقرب وقت ممكن”. وتابع “يجب أن تكون هذه الحكومة قادرة على إطلاق الإصلاحات ذات الأولوية التي يتطلبها الوضع. كما يجب أيضًا البدء في التحضير للانتخابات النيابية المقبلة في العام 2022، والتي يجب أن تتمّ بطريقة شفافة وحيادية، ووفقًا للجدول الزمني المحدّد”.
وأكد الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن “لبنان يحتاج إلى حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات الرئيسية الاقتصادية والخاصة بالحوكمة والتحضير لانتخابات عام 2022، والتي يجب إجراؤها في موعدها المحدّد. ويبقى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ضرورياً لإنقاذ البلاد من الانهيار المالي. ويعتبر استقرار لبنان وازدهاره أساسيين للمنطقة ككل ولأوروبا. ويجدد الاتحاد الأوروبي دعمه القوي المستمر للبنان وشعبه، ولاستقراره وأمنه وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله السياسيّ”.
وفي سياق ذلك، أكد المدير التنفيذيّ لصندوق النقد الدولي ممثل المجموعة العربيّة في مجلس إدارة الصندوق محمود محيي الدين أن “وجود حكومة لبنانية كاملة الصلاحيات الدستورية شرط ضروري وأساسيّ لبداية أيّ تفاوض مع صندوق النقد الدولي بخصوص برنامج للتعاون، في ظل الأزمة الاقتصاديّة غير المسبوقة التي يشهدها لبنان”.
في غضون ذلك، استمرّ مسلسل الاحتجاجات وقطع الطرقات بالإطارات المشتعلة وحاويات النفايات في مناطق نفوذ تيار المستقبل في البقاع وطرابلس والشمال وصيدا والطريق الساحلي بين بيروت والجنوب عند نقطتي الناعمة وخلدة وجسر الكولا وتقاطع قصقص. ووقعت مواجهات بين الجيش اللبناني وعدد من المحتجين قاموا بقطع الطريق في جبل محسن احتجاجاً على الغلاء وارتفاع الأسعار وتردي الاوضاع المعيشية اثر محاولة فتح الطريق، حيث حصل تدافع مع المحتجين الذين رشقوا الجيش بالحجارة ما دفع عناصره الى اطلاق النار في الهواء لإبعادهم ما ادى الى وقوع إصابات. واعلن الجيش اصابة 10 عسكريين بجروح نتيجة إلقاء قنبلة يدوية.
وأكد قائد الجيش العماد جوزف عون خلال جولة على المواقع العسكرية في منطقة البقاع أن “الامن في المنطقة للجميع من دون استثناء وقد شهد تحسناً لافتاً مؤخراً. ولن نسمح لأحد بزعزعته، ولا عودة الى الماضي”. وقال من بعلبك: أهنّئ العسكريين على شجاعتهم وانضباطهم، وتفويت الفرص على مَن يريد نشر الفوضى وخلق الفتن.
وحذّرت مصادر سياسية لـ”البناء” من أن تكون أحداث لبنان مخطط لضرب الأمن الداخلي من خلال المزيد من الحصار والعقوبات الأميركية لخلق فوضى اجتماعية واثارة الفتن المذهبية والطائفية لضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة لدفعها لتقديم التنازلات فيما يتعلق بسلاحها ودورها في لبنان والمنطقة. وفي سياق ذلك، أشار رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله”، السيد هاشم صفي الدين، إلى أن “ما يحصل اليوم في لبنان هو أحد مصاديق الظلم والطغيان الأميركي”. ولفت إلى أن “مشكلة لبنان الاقتصادية والمعيشية هي مشكلة نظام وفساد، ولكن لا يجب ان ننسى أنها مشكلة تدخل الأميركي الدائم. وفي لبنان للأسف هناك حلفاء لأميركا يتبجّحون”. وأكد أن “من يخرّب اليوم لبنان هي الولايات المتحدة الأميركية التي تمنع وتهدد وتحاصر وتفرض عقوبات. أميركا كانت وما زالت تتدخل بكل شيء في البلد”. ورأى أنه “لو كان “حزب الله” يسيطر على لبنان كما تقول أميركا، هل كان هناك مصرف مركزيّ كما الآن، وهل كانت البنوك تتصرف على هواها كما الآن، أو هل كان حدث ما نراه؟”.
من جانبه شدّد رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب محمد رعد، في كلمة له، على أن “الآخرون يخطئون معنا، ونملك من سعة الصدر ما يجعلنا نسامحهم ونصبر على كيدهم والمعيب من كلامهم بحقنا، ونحن لا نندم على إسداء معروف قدمناه إلى كل من أردنا شراكته في إدارة شؤون بلادنا لما فيه خير شعبنا وتحقيق سيادتنا وحفظ عزتنا وكرامتنا، ولنا الفخر أن يقال عنا عارضنا سياسة هؤلاء منذ بدأوا تلك السياسات لأن هذه السياسات انتهت إلى انهيار الدولة الآن، وهذا وسام يعلّق على صدورنا، إن كان هناك مَن يفهم وإن كان هناك مَن يعتبر”.
ولفت الى انه “لا نزال نمدّ أيدينا من دون أي تحسّس شخصي من أحد لأننا قوم نترفع الضغائن الشخصية ونتوق الى المصالح الكبرى في وطننا وإنساننا ومجتمعنا، ونحن نفتخر بأننا نتسلّح ونستقوي ونعد العدة، ونؤكد جهوزيتنا الدائمة في مواجهة عدو تئن من أوجاعه كل شعوب منطقتنا لأنه يريد أن يتسلط ويتهدّد ويسلب كل خيرات هذه المنطقة ليجسد تفوقه بدعم من مصالح الإدارة الأميركية التي تمثل أكبر لص دولي في العالم، شهده من قبلنا ونشهده وسيشهده من بعدنا إن لم تتحرك الشعوب لتحفظ مصالحها وتصون سياداتها وترفض التبعية في أوطانها”.
وواصل سعر صرف الدولار ارتفاعه العشوائيّ حيث تأرجح أمس، ما بين 22500 ليرة لبنانية للشراء و22700 للمبيع. وأوضح خبراء اقتصاديون لـ”البناء” الى أن “لا سقف للدولار وقد يرتفع مع كل خضة سياسيّة أو أمنية نظراً لتأثر الاقتصاد والنقد بالأوضاع السياسية والأمنية”، مشيرين إلى أن سبب الارتفاع الأخير للدولار هو سياسي، متوقعين المزيد من الارتفاع في حال لم يتمّ الاتفاق على حكومة جديدة ومعالجة الأوضاع الاقتصادية.
وأعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في بيانٍ، أن “حجم التداول من قبل المصارف ومؤسسات الصرافة المشاركة على منصة «Sayrafa» هذا الأسبوع هو 8 مليون دولار أميركي بمعدل 16800 ليرة للدولار الواحد وفقاً لأسعار الصرف المسجلة على المنصة من قبل المصارف ومؤسسات الصرافة”.
على صعيد الأزمات لوحظ تراجع أزمة الوقود وطوابير السيارات بعد إفراغ عدة بواخر حمولتها وتسليم المحطات وقرب وصول النفط العراقي الى لبنان بجهود المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وقال ممثل موزعي المحروقات فادي ابو شقرا في بيان بعد اجتماع للموزعين: “اطلعنا في الفترة الاخيرة على جملة بيانات وتصريحات متعلقة بالإجازات والدعم للمواد النفطية، ورغم عدم تأمينها من قبل مصرف لبنان وغيرها من الأمور غير الدقيقة، وتبين انها صادرة عن غير ذي صفة”، ودعا المواطنين الى “عدم الهلع والتهافت على المحطات لكون المواد مؤمّنة وموافق على إجازات استيرادها ولا خوف على ذلك”.
وفي ما خص أزمة الدواء أعلن وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن أن “لوائح الدواء المدعوم وغير المدعوم ستنشر اليوم على موقع الوزارة”. ولفت خلال مؤتمر صحافي للإعلان عن خطة الدواء إلى أن “كل ما دُعم خلال عامين هو ضمن سقف الـ100 مليون دولار”، مضيفاً “واجبنا أن نكون يدًا واحدة لتأمين الدواء الملحّ للمواطن”. وأشار حسن إلى أن “لائحة الأدوية المدعومة تشمل أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية وحليب الأطفال واللقاحات والأمراض النفسية والعصبية”. متابعاً: “أما لائحة الأدوية غير المدعومة فتشمل تلك المسعرة بأقل من 12 ألف ليرة”. وأكّد حسن أن “في ظل الشح الحاصل لدى مصرف لبنان حاولنا في هذه الخطة تفادي أزمة تطال جميع اللبنانيين”.