سماهر الخطيب
اختلطت الأوراق مجدّداً بعد رسالة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار الأسبوع الماضي. حيث عرضت أنقرة خلالها حماية مطار كابول بعد انسحاب القوات الأميركية، في حال تنفيذ الشروط التي طرحها الأتراك.. في الأثناء نفسها أعلنت الولايات المتحدة الأميركية إنهاء 20 سنة من تدخلها العسكري في أفغانستان ومغادرة قواتها لهذا البلد بوتيرة أسرع مما كان متوقعاً، أي في 31 آب من العام الحالي، بعد أن كان من المفترض أن يعلن رحيل آخر جندي أميركي عن أفغانستان بحلول 11 أيلول.
إنّ موقف الولايات المتحدة الأميركية كان واضحاً منذ البداية، باعتبار محاولة أية قوة خارجية للسيطرة على المنطقة بمثابة تهديد للمصالح الحيوية الأميركيّة وسيتمّ رد ذلك التهديد باستخدام الوسائل الضرورية كلها.
فبعد فشل الاستراتيجية الأميركيّة طيلة عقدين من الزمن في السيطرة على المنطقة ليس في أفغانستان وحسب وتوّج الفشل الأميركي بفشل إطالة عمر «داعش» و»النصرة» في سورية والعراق أمام الانتصارات المحققة والمتسارعة للجيشين السوريّ والعراقيّ وحلفائهما في تحرير كل الأراضي التي كانت تحت سيطرة هذه التنظيمات الإرهابية، وصولاً إلى معركة سيف القدس في فلسطين المحتلة التي جاء الإعلان عنها تأكيداً آخر لفشل تلك الاستراتيجية.
والأميركيون لن يعلنوا الانتصار وفق ما صرّحت به المتحدثة باسم الأبيض، لأنهم ببساطة «لم يربحوا الحرب في أفغانستان» وفي مواجهة الانتقادات التي تعرّضت لها المديرة الأميركية والتي اعتبر منتقدوها أن الخروج من أفغانستان شبيه بالخروج من فيتنام، حاول بايدن التخفيف من وطأة الانتقادات، معتبراً أن «الولايات المتحدة دفعت تريليون دولار على تسليح القوى العسكرية الأفغانية وتدريبها». في سبيل تحقيق هدفين أساسيين أولهما القضاء على أسامة بن لادن، وثانيهما منع تنظيم «القاعدة» من استخدام هذا البلد للتأثير في الأمن القومي الأميركي. وفي إحصاء الخسائر البشرية هناك قُتل 2448 أميركياً، وجرح 20.722، وهو ما جعل الأرض الأفغانية كما الفيتنامية في رأي المنتقدين الأميركيين أنفسهم لسياسة بلادهم الخارجية التي سببت للشعب الأميركي الكثير من الخسائر ناهيك عن الخسارة الأميركية الأكبر وهي فقدان «مصداقيتها» المزعومة والمعنونة بالـ»ديمقراطية» والمبادئ الإنسانية ليتضح زيفها في العالم أجمع وتبدأ الخسارات الواحدة تلو الأخرى في المناطق التي كانت تعتبر مسرحاً لعملياتها وسياستها..
كلّ ذلك دفع الأميركيين إلى البحث عن خطة بديلة واستراتيجية واهية في العودة على بدء السيناريو الأفغاني بالاعتماد على «طالبان» كـ»بديل» عن القوات الأفغانية للنيل من الوجود السوفياتي آنذاك، ومحاصرته كما محاصرة إيران بحزام إسلامي أصولي متشدّد، فكانت الأنظار الأميركية حينها نحو «طالبان» التي قال عنها الرئيس الأميركي بيل كلينتون «طالبان حركة معتدلة ولا نعتبرها حركة أصولية».
انطلاقاً من السيناريو السالف الذكر ذهبت أميركا لقلب مجرياته ضمن قالب جديد، من خلال دعم الولايات المتحدة للوجود التركي في أفغانستان بحجة «ملء الفراغ الأميركي». وهو ما سعت إليه تركيا، التي كانت قد بدأت تدريجياً بالتمركز في أفغانستان!
وبإطلاق يد القوات التركية في تلك المنطقة وإعلانها حماية مطار كابول، جاءت التصريحات الأميركية لتعزف على الإيقاع ذاته.
ورغم أنّ طالبان وجهت تحذيرات شديدة اللهجة إلى أنقرة بأن «العسكريين الأتراك إذا ظلوا في أفغانستان فسوف يكون عليهم مواجهتها، وستقع مسؤولية العواقب على عاتق من يتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد». فإنّ مثل هذه التهديدات لن تمنع تركيا من تنفيذ قرارها، لأن أنقرة تحاول منذ فترة طويلة كسب موطأ قدم في أفغانستان من أجل توسيع نفوذ سياستها الخارجية والتوسع في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ناهيك أن الحملة الأفغانية لا تهدد أردوغان بشيء داخل تركيا نفسها بعد أن سيطر «السلطان» على كل منافسيه وأعاد كتابة الدستور.
فالأتراك حاضرون على الأراضي الأفغانيّة منذ سنوات عدّة، معتمدين بشكل أساسي على الأتراك المحليين بالإضافة إلى اعتمادهم على الأوزبك والتركمان، وعلى الطاجيك وغيرهم. كما أن أردوغان يواصل رعاية الأويغور في شينجيانغ الصينية.
بالتالي تحاول تركيا زيادة نفوذها في دول المنطقة عبر ترسيخ وجودها في أفغانستان فأردوغان سيحاول الاستثمار في المستنقع الأفغانيّ لتوزيع وعود للدول الآسيوية بالتغطية والحماية وباتفاقيات جديدة.. لذلك، يحاول أردوغان الصيد في مياه أفغانستان العكرة.. إنما سيكون مستنقع تغرقه فيه الولايات المتحدة الأميركيّة كما أغرقته في الحرب السورية في حين ستتجه الولايات المتحدة إلى إعادة تنظيم استراتيجيتها لمواجهة الثالوث «المهيمن» في آسيا المتمثل بـ روسيا والصين وإيران..
فأميركا لم تخرج سياسياً، وربما ستشن حرباً بالإنابة على طالبان وحُلفائها، خاصة بعد أن استطاعت «طالبان» اكتساح عدد من المناطق الأفغانية. بالإضافة إلى تحسين علاقاتها بدول الجوار، والتأكيد أن ليس من أهدافها المسّ بالاستقرار الإقليمي. والتواصل مع كل من روسيا والصين وإيران، التي استضافت موتمراً للحوار الأفغاني، دعت فيه طرفي الحوار (الحكومة الأفغانيّة و»طالبان») إلى السلام وتقاسم السلطة. فيما رحّب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بما سمّاه «الهزيمة الأميركية» في أفغانستان.
ومن غير المستبعد استخدامها لورقة «الإسلام السّياسي» في أفغانستان كما استخدمتها في سورية والعراق وليبيا ومصر، وجنّدت مِئات الآلاف لإخراج السّوفيات من أفغانستان والثّأر لهزيمتها المُهينة في فيتنام.
وبالتالي فإن هذا المستنقع الأفغاني أعمق من حماية تركية للمطار، وربما هذا السبب وراء الوجود التركي في أفغانستان أي استخدام سيناريو مشابه لذاك الذي استخدمته في سورية والعراق وليبيا، خاصّةً أنّ الانسحاب الأميركي قد يُؤدي إلى حرب أهلية في أفغانستان نظراً للصراعات العرقية والطائفية (قبيلة البشتون التي تُمثّلها حركة طالبان وحُلفاؤها وتحالف الشّمال الطّاجيكي، والأقليّة الشيعيّة في مزار شريف، والبلوش وبدَرجةٍ أقل في الجنوب)، ووجود قوى دولية وإقليمية عظمى تتنافس على النفوذ في البلاد ونحن نتحدّث هُنا عن باكستان وإيران والهند وروسيا، ولا ننسى أميركا التي تُريد أن تثأر لهزيمتها، ومنع طالبان من إقامة إمارتها الإسلاميّة، واتّخاذ أفغانستان إلى قاعدة لميليشيات تدعمها لزعزغة استِقرار الصين تحت ذريعة دعم أقليّة الإيغور الإسلاميّة «المضطهدة» في الشّريط الصيني الغربي المُحاذي لأفغانستان.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع