“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
نسبة تقديم الإعتذار تراجعت من احتمال مطلق إلى “قابل للدرس”، وقبل ساعات من موعد الحسم المنتظر باتت النسب متساوية، وها هو رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري “يَحُطّ” في قصر بعبدا إستجابةً لـ”نصيحة مصرية” بضرورة الإستمرار في التكليف.
في الشكل، زيارة الحريري إلى بعبدا حملت مظاهر استفزازية. في المضمون تقدم إلى رئيس الجمهورية ميشال عون بتشكيلة حكومية مؤلفة من 24 وزيراً عملاً بأفكار رئيس مجلس النواب نبيه برّي. في الشكل، وضعَ الحريري مهلة أمام عون للموافقة، لا تتجاوز اليوم الواحد. في المضمون يُعدّ تحديد مهلة لرئيس الجمهورية “أسلوباً فجّاً” إنما سابقة في العلاقة بين رئيس مكلّف ورئيس جمهورية، وفيها من الإشارات السلبية ما يكفي لإظهار نواياه. في المضمون أيضاً، سيُحيل عون التشكيلة إلى الدرس من غير أن يلتزم بالمهلة لكون الحريري ليس الجهة الصالحة لفرض مُهل زمنية!
المصريون الذين لجأ إليهم الرئيس المكّف على قاعدة البحث عن استشارة، كان رأيهم ألا يعتذر، من هنا عرّج إلى بعبدا. يجدر بهذه الحالة إذاً أن يتقبّل المكلّف المشورة وأن يعمل بمضمون مقتضياتهاـ وبالتالي، إعادة هندسة توجّهاته لهذا اليوم. في هذا الوقت، عادت السعودية لمحاولة الضغط على الحريري من زاوية تذكيره بصرفه عن لائحة الإهتمام لدى المملكة. وقبل ساعات من لقائه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة، عاجلته صحيفة “عكاظ” المقرّبة من البلاط في الرياض، بأفكار على شكل “تمريقات” اعتبرت أن “لبنان يمرّ بمرحلة دقيقة ويحتاج إلى قيادة مختلفة” لتخلص إلى أن “الحريري بالتأكيد لا يمثلها.. لقد حان الوقت أن يترجّل ويترك الساحة”.
هذا يُعدّ إشارة كافية إلى انقسام الرأي العام الدولي حول الوضع في لبنان بين فريقين، والملفت في هذا السياق، أن الإختلاف ليس على استمرار الحريري من عدمه، إنما على احتمالات إيجاد بديل للحريري من عدمه. الموفد الفرنسي باتريك دوريل، الذي كان يجول “تحت الشمس” أمس في بيروت، تجاهل كل التسريبات حول إقدام الحريري على “رفع” تشكيلة حكومية إلى بعبدا، وانشغل بالسؤال عن هوية البديل عنه. الرّوس أعادوا ترشيد خطابهم لناحية أن الإسم “لا يشكّل مشكلة لديهم”، ذلك رداً على “تلفيقات بيت الوسط” التي تحمل إسمهم، فيما الداخل، وتحديداً الجزء المعني باختيار البديل عن الحريري، أي “لقاء رؤساء الحكومات السابقين الأربعة”، فقد تنصّل من احتمالات توفير البديل، وهو موقف استنسخه “الثنائي الشيعي”، إذ يجزم المطلعون على موقفه أنه ليس في صدد أن يسمي أحداً أو يتفرّد بالتسمية، وقد أودع قراره لدى المعنيين: لن نختار من يزعج الحريري أو من خارج التنسيق معه”.
رغم كل ذلك، فإن التطور المستجد مركزه مصر. خلال اللقاء الذي جمع الحريري بالسيسي، تناول الأول العقبات التي تعيق تأليفه الحكومة، ليستخلص بأنه لم يعد يقوَ على الصمود، فكان سؤال من الجانب المصري حول البديل، ليكتفي الحريري بتأكيد عدم وجوده، وهو ما لاقى رفضاً مصرياً للإعتذار إذاً، واقتراحاً بالإستمرار في مهمته، وضمنياً حمل ذلك دعوةً للتوجه إلى بعبدا. ولم يخلُ الإقتراح المصري من “إغراءات”. ربط المصريون اقتراحهم بـ”رزمة تفاهمات” مبدين استعدادهم لتولي دور أوسع في لبنان وتبني مشروع دعوة لاجتماع عربي ـ تنسيقي حول “الأزمة اللبنانية” وتشكيل “لجنة” بجدول أعمال زمني لتأليف الحكومة، وهذا يأتي كتعويض عن فقدان الحريري للحاضنة الخليجية. وقد وعد المصريون بضم الخليج إلى الإجتماع.. ويكون المصريون بذلك قد قايضوا تجميد الحريري لخطوة اعتذاره مقابل توسيع هامش تدخلهم أولاً وتوفير ظروف “نجدته” ثانياً، أي عملياً، المزيد من تدويل الأزمة اللبنانية، وزيادة الأوصياء واحداً. على هذا الأساس، مضى الحريري إلى بعبدا شارباً “حليب سباع”. في هذا الإتجاه، سيكون للمصريين موفد رسمي إلى لبنان قريباً، شأنه بذلك شأن الموفد الأميركي أو الفرنسي أو الروسي أو غيرهم، وقد يطّلع سفيرهم في بيروت بمزيد من الصلاحيات لأداء دور بارز، لا يختلف عن الدور “التدخّلي” الذي يلعبه اليوم الثلاثي السفاراتي السعودي ـ الأميركي ـ الفرنسي. هذا يجسّد عملياً نوعاً من أنواع الهيمنة على القرار اللبناني وجعله أسير وصاية “مجلسية” “يُقعمز” على طاولتها “مجموعة قناصل” متعددي الجنسيات. يا مرحباً!. يُسأل عن هذا الوضع المهتريء من تمادى في الأزمة، من التكليف حتى التأليف. هؤلاء الوحيدون الذين يجدر تحميلهم مسؤولية جعل لبنان تحت “فصل سابع” مبطّن.
بعيداً عن ذلك، كان الخوف يعتري الجميع في الداخل من سيناريو اليوم التالي للإعتذار وما بعده. فيما لو تقدم الحريري بتشكيلة إلى رئيس الجمهورية ورفضها الأخير وأقبل الأول على الإعتذار عبر شاشة “الجديد” الخميس، فإن ذلك يعني عودةً لـ”اجتياح الدواليب” للطرقات، إذ سيخرج مؤيدو تيّار “المستقبل”، غاضبين إلى الشوارع التي يُفترض بهذه الحالة أن تتحول إلى “بقعة لهب” متحركة، سيزيد من سخونتها سعر صرف الدولار الذي سيقفز مستدرجاً “عناصر تخريبية” جديدة تحمل لواء الإنتفاضة ودائمة التحرك في الشارع إنفاذاً لقرارات سياسية. هذا يعني نقل حالة الأزمة إلى الشارع، والشارع في العادة يقابله شارع آخر، وماذا لو انفجرت الشوارع بوجه بعضها البعض؟ هذه الخلاصة كانت قيد تدقيق ونقاش أمس بحثاً عن أساليب معالجة سريعة لسيناريو مرّ ومرجح.
من جهة أخرى كانت خطوة الحريري “قيد الدرس” من جانب معنيّين. خطوة الإعتذار في حال حصلت، تعني عملياً وضع الحريري لنفسه بمواجهة فرنسا ومصر و”الثنائي الشيعي”، وهؤلاء كلهم يطرحون البديل قبل قبول البحث في الإعتذار، فهل أن الحريري، وفي ظل حالة الإنصراف السياسي عنه، جاهز لكي يشتبك مع الثلاثي أعلاه وأن يفرّط بعلاقة تمثل نهاية العلاقات بالنسبة إليه؟