منذ أكثر من عشر سنوات، مع بدء تسجيل «نشاط لافت» للجرائم المرتكبة ضد النساء، لم تخفت المطالبة بتشديد العقوبات على القتلة. صحيح أن هذه المطالبة تهدف ــــ ظاهرياً ــــ إلى نُصرة الضحايا والانتقام لأرواحهنّ المسلوبة، إلا أنها ــــ في العمق ــــ تضمر خشية من «خبايا» المنظومة القانونية الذكورية و«عقلية» بعض القضاة التي دائماً ما تجد مخارج للتساهل مع المجرمين. «تسامح» القضاء مع قاتل لطيفة قصير أخيراً، شاهد جديد على صحة هذه الخشية.
ففي 22 حزيران الماضي، أصدرت محكمة الاستئناف المدنية في جبل لبنان الناظرة في قضايا تخفيض العقوبات، برئاسة القاضية أميرة شحرور، قراراً بقبول طلب التخفيض المُقدّم من المحكوم عليه إبراهيم طالب بالأشغال الشاقة لمدة 18 عاماً، بعدما أقدم في 3 نيسان 2010 على قتل طليقته. وعليه، أعفت المحكمة الرجل، الذي اغتصب طليقته وأمّ ولدَيه وعذّبها لثلاث ساعات قبل أن يقتلها خنقاً، من سدس العقوبة، أي ما يُعادل 36 شهراً من أصل 216 شهراً، «على أن يوضع تحت المراقبة الاجتماعية بواسطة مساعد اجتماعي يعيّن لهذه الغاية (…) وعلى أن يُقدّم طالب التخفيض كفالة مالية بقيمة 200 ألف ليرة». وبـ«فضل» هذا القرار، فإنّ القاتل على موعد مع الحرية خلال الأيام المُقبلة ما لم تمتثل القاضية شحرور لتوصية المدّعية العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون بتجميد القرار وتأجيل تنفيذه.

تكريس التساهل مع قتلة النساء
من دون التدقيق في تفاصيل الجريمة والوقوف عند رواية أهل الضحية ومطالبهم، تبّنت شحرور معظم ما ورد في تقرير لجنة تنفيذ العقوبات التي يرأسها القاضي محمد شهاب، مع تعديل في مدة تخفيض العقوبة. إذ كانت اللجنة أكثر «تسامحاً» إلى درجة أنها اقترحت في توصياتها الصادرة في 5 نيسان 2020 الموافقة على تخفيض العقوبة «بحيث يُعفى (المحكوم) من كامل المدة المتبقية فعلياً من محكوميته»! واستندت في ذلك إلى جملة تقارير، أبرزها الذي نظّمه آمر فصيلة سجون طرابلس بتاريخ 26/6/2019، ويُفيد بـأنّ مُقدّم الطلب «ذو سلوك جيّد مع نزلاء السجن والإدارة، ويتجنّب التدخل في أي مشاكل أو نزاعات، ويُشارك مشاركة فعالة في النشاطات التي تجرى داخل السجن من ثقافية ودينية، ويلتزم بجميع جلسات التدخل الاجتماعي، فضلاً عن أنه لم يصدر بحقه أي تدابير إدارية أو تأديبية طيلة فترة سجنه».
وإذ «اعترفت» اللجنة بأن طالب التخفيض يملك سابقتين في تعاطي المخدرات والقتل، رأت أن ذلك «لا يُشكّل مانعاً قانونياً يحول دون إجابة طلب التخفيض فيما لو توفّرت في وضعه باقي الشروط». أما «الأخطر»، بحسب المحامية في منظّمة «كفى عنفاً واستغلالاً» ليلى عواضة، فهو ما ورد في تقرير المُساعدة الاجتماعية بشأن «ندم القاتل» وطلبه من المحكمة المساعدة لـ«العودة إلى طفليه» نظراً إلى «نوع الجريمة وظروفها». وتلفت عواضة إلى طبيعة التحقيق الاجتماعي الذي أعاد إحياء مبررات القتل التقليدية المرتبطة بـ«الغيرة» وغيرها من الحجج التي تهدف إلى تلطيف الفعل الجرمي، و«عدنا إلى واقع الاستماع إلى وجهة نظر القاتل وظروفه وتفهّم وضعه بهدف التسامح معه»، معتبرةً أن قرار تخفيض العقوبة «شكّل مُفاجأة كونه ينسف مساراً طويلاً من النضال الذي أدى إلى إقرار قانون حماية النساء من العنف الأسري والذي يهدف إلى تشديد العقوبات لتشكيل رادع لعدم تكرار الجرائم». وهنا جوهر القضية، «فما الذي يمنع الآن قاتل منال عاصي وغيره من قتلة النساء من تقديم طلبات تخفيض عقوبة بحجة حسن سلوكهم في السجن؟»، مُشيرةً إلى أن قراراً كهذا من شأنه أن يُشكّل قاعدة تمهّد لواقع متساهل مع المجرمين.

في معرض تبريرها للقرار، تقول القاضية شحرور إن جناية القاتل ليست من الجرائم غير المُستثناة من منحة تخفيض العقوبة وفق ما تنصّ عليه المادة 15 من القانون 463/2002 (قانون تنفيذ العقوبات)، «وهو ما يحتّم بدء المطالبة بشمول جرائم العنف ضد النساء بالجرائم المُستثناة من تخفيض العقوبات»، على ما يقول وكيل شقيقة الضحية المحامي أشرف الموسوي، لافتاً إلى أن القاتل سيكون طليقاً بعد أيام ما لم يتخذ قرار بإيقاف مؤقت للحكم للضرورات العائلية «ونظراً إلى ارتباط القضية بموضوع حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري».
وكان الموسوي قد تقدّم قبل يومين لدى النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان بطلب وقف تنفيذ منحة تخفيض العقوبة، لافتاً إلى أن الجهة المدّعية لم تسقط حقوقها الشخصية إطلاقاً في جميع مراحل التحقيق، وأن الهدف الحقيقي للجهة المدّعية هو إنزال عقوبة الإعدام أو المؤبد أو الأشغال الشاقة لفظاعة الجريمة ولهولها ولتأثيرها على الولدين. وإذ أشار الطلب إلى أن القاتل «من أصحاب السوابق القضائية بجرم تعاطي المخدّرات، إذ يوجد حكمان قضائيان بحقه بتواريخ وبوقائع مختلفة»، اعتبر أن المحكمة «أخطأت في تطبيق القانون وخصوصاً لجهة ارتباط وجوب تخفيض العقوبة بإسقاط الحقوق الشخصية وفق المادة 12 من قانون تنفيذ العقوبات».

تهديدات تناقض مزاعم «الاندماج»
«(…) حسب الأسباب الموجبة لقانون تنفيذ العقوبات، إن وظيفة العقوبات المانعة للحريات ليست فقط الاقتصاص من الجاني، إنما أيضاً إصلاحه وتجهيزه لإعادة اندماجه في المجتمع، ومنحه تخفيض العقوبة في حال توفر شروطه من شأنه المُساهمة في إعادة الاندماج وفي ترسيخ الثقة بين المحكوم عليه والسلطة». تقول القاضية شحرور في قرارها مبرّرة تساهلها مع الرجل الذي عنّف زوجته طوال تسع سنوات، معتبرةً أن من الممكن تخفيض العقوبة «بما أنه لم ينهض من الوقائع المُفصّلة ما يدلّ على أن المستدعي طالب التخفيض سيئ السلوك أو قد يُشكّل خطراً على نفسه أو على المجتمع في حال إطلاق سراحه بمفهوم المادة 3 من القانون 463/2002 معدّل».
كلام القاضية هذا يستند إلى نتيجة التحقيق الذي أجري مع القاتل الذي كتب في قسيمة طلبه التخفيض (تاريخ 18/6/2019) ردّاً على سؤاله عن تصوّره لحياته عند الخروج من السجن، «أريد أن أعيش حياة طبيعية وأقوم بفتح صفحة جديدة مع أولادي وعائلتي، وأن أعود إلى عملي في تجارة الأسماك وأن ألتزم بالقوانين ولا أخالف».
هذه «الرواية» تتناقض وما ينقله أهالي الضحية عن تهديدات أرسلها القاتل من داخل السجن لأهل طليقته من أجل استرداد ولدَيه «مع رغبة صريحة بإعادة فتح مشكل حقيقي مع العائلة»، وفق ما يقول قاسم قصير شقيق الضحية، فيما يُشير شقيقها الآخر حسين قصير في اتصال مع «الأخبار» إلى خطر جدي على الصحة النفسية للولدين «اللذين شاهدا أمهما مقتولة أمام أعينهما بعد عودتهما من المدرسة واللذين يملكان مخزوناً من ذكريات تعنيفهما وتعنيف والدتهما». ويُضيف: «اليوم الفتاة طالبة طب، فيما الشاب ينتظر انتهاء العام الحالي كي يتمكن من السفر لاستكمال دراسته. عودة الأب القاتل بهذه الطريقة من شأنها أن تشكل عائقاً يعرقل مسار استكمال حياتهما».
وتلفت عواضة إلى أن قرار خفض العقوبة لم يأخذ في الاعتبار أن ثمة ضحايا آخرين لجريمته، «فالأذى الناجم عن القتل لم يلحق بلطيفة فقط، بل طال الأطفال وأهل الضحية»، مُتسائلةً: «من يأخذ حق هؤلاء؟». يبدي حسين قصير هنا سخطه الكبير من تجاهل القاضية لموقف العائلة، وكيف أنها رفضت الاستماع إلى تفاصيل الجريمة، «وكأن فقدنا لا قيمة له»، معتبراً أن قرارها «ليس إلا تمهيداً لإعادة مسار الدم بين العائلتين، وإلا ما الذي يعنيه أن يطلق سراح رجل قتل أختنا وسيقيم في منزل يبعد عن منزلنا أمتاراً؟».
ما الذي يجعلك جديراً بالاستفادة من منحة تخفيض العقوبة، وماذا أضافت إليك تجربة السجن؟ سُئل القاتل في قسيمة تقديم الطلب، فأجاب: «لأنها المرة الأولى التي أدخل فيها إلى السجن، وطيلة فترة السجن التزمت بالقوانين والأنظمة وأن أبتعد عن المشاكل ولا أقع بأي خطأ كان، إذ إن هذه التجربة علّمتني أشياء كثيرة». المُفارقة أن قرار القاضية لم يأخذ في الاعتبار عدم وجود مراقبين اجتماعيين مكلّفين بالتحقيق الاجتماعي من قبل وزارة العدل، «ما يعني أن القرار ساقط كونه ربط خضوع القاتل للمراقبة الاجتماعية بإطلاق سراحه» على حد تعبير الموسوي.


اغتصاب وتعذيب وخنق
بتاريخ 30/8/2012، أصدرت محكمة الجنايات في محافظة جبل لبنان القرار (994/2012) حكمت فيه على المدعو ابراهيم عارف طالب بالأشغال الشاقة لمدة 18 عاماً، «بعدما ثبت إقدامه بتاريخ 13 نيسان 2010 على وضع قطعة من القماش على فم زوجته، الأمر الذي أدّى الى وفاتها». في تفاصيل الجريمة التي أعاد تمثيلها القاتل، فإنّ الأخير انتظر خروج ولديه إلى المدرسة، و«كمن» لطليقته، وأقدم على اغتصابها وفق ما أظهرت تقارير الطبيب الشرعي مع اعتداء دام لنحو ثلاث ساعات (حسب نتائج التحقيقات التي استندت إلى شهادات متنوعة)، قبل أن يكتم نفسها بمنشفة. ووفق رواية الأهل، فإنّ المجرم مدمن مخدرات، وكان يعنّف زوجته التي كانت تعيل المنزل طوال تسع سنوات، ولم يطلّق لطيفة إلا بعدما نال 10 آلاف دولار، «لكنه لم يتحمل بعدها فكرة طلاقها منه وعاد لينتقم منها».
الجدير ذكره أن القاتل حُكم لمدة 18 عاماً، وبما أن سنة السجن محددة بتسعة أشهر، كان من المفترض أن يقضي في السجن 14 عاماً، ومع «حسم» القاضية شحرور ثلاث سنوات، يكون قد مكث في السجن 11 عاماً فقط ليعود ويمارس حياته بشكل طبيعي!