قي الثمانينيات، أمضت قوات المارينز الأمريكية ما مجموعه 533 يومًا في بيروت، أسفرت عن سقوط 240 قتيلًا وأكثر من 130 جريحًا منهم، ولم يستطيعوا إنجاز شيئًا أبداً. لم يكن هذا الإستنتاج صادر عن مجموعة من الطلاب أو الباحثين في التاريخ المعاصر، بل كانت الخلاصة التي وصل إليها جنود المارينز بأنفسهم. هذه الحقبة مثلت حقبة الفشل العسكري الثاني للولايات المتحدة الأمريكية في لبنان.
أما مرحلة الفشل واليأس السياسي لها، فهي في الفترة الممتدة من العام 2004، وصولاً حتى أيامنا هذه. والتي نشهد فيها كل أنواع وأشكال الحصار الإقتصادي، وما تسببه من آلام مجتمعية، التي إن دلت على شيء فإنها تدل على حجم الخيبة الأمريكية، وافتقادها كل عناصر القوة والتأثير، التي كانت تؤمن لها مصالحها سابقاً.
مرحلة بداية السقوط 2004 – 2007
منذ عام 2004، ارتسم منحدر السياسة الأمريكية في لبنان نحو الفشل، فبعد أن كانت تسعى جاهدة، من خلال الضغوط الدولية (القرار 1559) إلى تشكيل منطقة شرق أوسط جديد يراعي مصالحها، ويحقق الأمان لوكيلتها في المنطقة “إسرائيل”. انعكست نتائج كل استراتيجياتها التي اتبعتها في تلك المرحلة، إلى فشل يتلو الفشل الأكبر من خلال:
_ الإصرار على خروج الجيش السوري من لبنان، ففتحت الباب أمام حزب الله ليأخذ أدواراً قيادية سياسياً.
_ دعمها المالي الضخم للأحزاب والشخصيات السياسية التابعة لها، من أجل صنع ثورة الأرز الملونة، أدى للفشل الذريع من جهة، وتكشفت حقيقة فساد هذه الجهات وارتباطها العضوي الخارجي، بحيث لم تعد تمتلك الثقة الشعبية اللازمة من جهة أخرى.
_ عملت على حصار المقاومة داخل بيئتها المذهبية الضيقة، فأفسحت المجال أمامها من غير أن تعلم، لتوسع من قاعدتها الجماهيرية الحاضنة ولتشبيك علاقاته المحلية. ( ما جرى خلال حرب تموز 2006 أبرز مثال).
_ جهدت لسلب المقاومة عمقها الإستراتيجي المتمثل في سوريا، فأدى ذلك لزرع نواة البعد الإقليمي للمقاومة.
مرحلة الإنحدار السريع 2011 – 2018
بعد نشوب ثورات الربيع العربي (الصحوة الإسلامية) في تونس ومصر، واستطاعة هذه الثورات في خلق تهديد، للبيئة الإستراتيجية المحيطة بكيان الإحتلال الإسرائيلي. قامت واشنطن بالتعاون مع حلفائها المهددة عروشهم وسلطاتهم في المنطقة، باستثمار هذه التطور وشن هجوم معاكس على سوريا، من أجل تحويلها إلى بلد تعمه الفوضى، لا يستطيع تقديم الدعم لحركات المقاومة، أوللمقاومة في لبنان تحديداً. كما أن المشروع الأمريكي حمل في طياته، خطوات مستقبلية تهدف إلى إعادة لبنان لاحقاً إلى مناطق نفوذه. لكن صمود الشعب والدولة السورية من جهة، إضافة الى التدخل العسكري الميداني للمقاومة اللبنانية وحلفائها في مساعدة السوريين من جهة أخرى. استطاع قلب الموازين الأمريكية، وتحويل الأزمة إلى فرصة، من خلال:
_ خلق محور للمقاومة يمتد من: إيران،العراق، سوريا، لبنان، فلسطين واليمن.
_ هزيمة أمريكا والدول التي ساندتها، وهدر كل ما تم رصده من موارد مالية وتسليحية و بشرية لتحقيق هذا الهدف.
_ تأسيس طوق جغرافي جيوستراتيجي، يهدد أمن ووظيفة ومستقبل “إسرائيل”، ويفشل المخططات الأمريكية لتحقيق مصالحها في المنطقة، من خلال بناء معادلات إقليمية مشتركة، أهمها: معادلة المليون صاروخ، الإقتراب الموزع خلال أي إشتباك عسكري مستقبلي، وأخيراً معادلة الدفاع الإقليمية عن مدينة القدس المحتلة.
_ تطور دور المقاومة في لبنان، من بعد وطني إلى بعد إقليمي فاعل ومؤثر، في كل قضايا المنطقة.
_ تحجيم قدرات الأدوات الأمريكية اللبنانية، وحرمانها القدرة على صنع معادلات سياسية داخلية.فقد أهدرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أكثر من 10 مليارات دولار (كما صرح بذلك مساعد وزير الخارجية الأمريكي دايفيد هيل)، قامت بتوزيعها على الأحزاب والقوى السياسية التابعة لها، دون أن يستطيعوا تحقيق أي هدف لواشنطن.
مرحلة المواجهة المباشرة 2018 – 2021
بعد كل هذه المراحل السابقة، التي أثبت فيها حزب الله قدرة غير مسبوقة تاريخياً، على مواجهة جميع أشكال وأنواع الخطط الأمريكية. إضافةً لاستطاعته وحلفائه، على تحقيق انتصار إنتخابي شعبي كبير، مكنهم من نيل الأكثرية النيابية عام 2018. أدت كل هذه الإخفاقات، إلى أن تفقد واشنطن الثقة بحلفائها في لبنان، وتغير من استراتيجيتها للمواجهة، عبر استخدام أدواتها بشكل مباشر، من خلال فرض العقوبات والحصار الجامع على كل اللبنانيين (لتأليب الرأي العام ضد حزب الله)، و من خلال تمكين جمعيات الNGO’s على استقطاب جماهير شعبية من كل الأحزاب والقوى، بواسطة الحرب الناعمة وأساليب الثورات الملونة (الجيل الرابع من الحروب).
فكانت انتفاضة 17 تشرين من العام 2019، التي رفع فيها عناوين شعبية محقة، يجمع عليها كل اللبنانيين. لكن استغلتها أمريكا لزيادة نفوذ هذه الجمعيات، والمطالبة باجراء انتخابات نيابية مبكرة، أقصى ما يمكن لها تحقيقه من خلالها، نزع الأكثرية النيابية من الحزب وحلفائه، لكن بالتزامن مع إضعاف القوى السياسية التقليدية التابعة لها.
لذا فإن كل ما شهدته الساحة اللبنانية أو ستشهده في الأيام المقبلة، من أحداث وتطورات داخلية، سيكون في سبيل تحقيق هذا الهدف. فهل ستستطيع أمريكا تحقيق هذا الهدف، أم ستكون انتخابات العام 2022 بمثابة رصاصة الرحمة على نفوذها في لبنان؟!