خاص “لبنان 24”
تحت عنوان “سنُسقِط حصاناتكم”، دعا أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت المروّع إلى وقفة تأييد وتضامن مع المحقق العدلي في الجريمة القاضي طارق البيطار “في ظلّ الهجمة المسعورة التي تُشَنّ عليه من سلطة الفساد القاتلة في لبنان”، لا سيّما وأنّ “الحقيقة تبدأ بمعرفة المجرم الذي أدخل، خزّن، هرّب وفجّر النيترات”.
تأتي هذه الوقفة على وقع جولة “تمييع” شهدتها الأروقة السياسية خلال الأيام الماضية، بعد ما اصطُلِح على وصفه بـ”الزلزال القضائي”، يوم وضع القاضي البيطار لائحة من كبار الشخصيات السياسية والمدنية يريد استجوابها، بنتيجة التحقيقات الأولية التي أجراها منذ تسلّمه مهمّته حتى اليوم، وقد تقاطعت بشكل كبير مع تلك التي خلص إليها سلفه القاضي فادي صوان، ويرى كثيرون أنّها كانت السبب في “الإطاحة” به.
طلب القاضي البيطار “الأذونات” المطلوبة لاستجواب هذه الشخصيات، إضافة إلى “رفع الحصانات” عن النواب منهم، وبدل أن يحصل على مُراده سريعًا، نظرًا لطبيعة الجريمة التي ينبغي أن توحّد جميع اللبنانيّين، اختارت السلطة “المماطلة”، فارتأى مجلس النواب “التريّث”، بل طلب “الأدلة” ليبني عليها، فيما رفض وزير الداخلية منح الإذن المطلوب، وتشير المعطيات إلى أنّ آخرين سيحذون حذوه في القادم من الأيام.
نهج لا يُصدَّق!
باختصار، يبدو أنّ النهج الذي اعتمدته الطبقة السياسية في التعامل مع انفجار آثم بحجم ذلك الذي ضرب مرفأ بيروت قبل أشهر، وروّع كلّ اللبنانيّين دون استثناء، هو تمامًا كأسلوب مقاربتهم لمختلف القضايا، وفق منطق “التسطيح والتطنيش”، ريثما تتحوّل ربما إلى قضايا “منسيّة”، حتى إنّ هناك من يعتقد أنّ بعض السلطة يراهن على “الانفجار الاجتماعيّ” لعلّه “يهمّش” التحقيقات ويُنسي اللبنانيّين همّها.
يقول معارضو السلطة إنّه نهجٌ لا يُصدَّق ولا يقبله عاقل، فكيف يمكن تفسير التعامل بهذه الخفّة مع انفجار اتّفقت الآراء على كونه من الأخطر في العالم، وقبل ذلك، على أنّه كان يمكن “تفاديه” لو أنّ أيًا من المسؤولين الذين كانوا يعلمون بوجود النيترات، وما أكثرهم، تصرّف بشكل مغاير ومختلف؟ وسواء كان هؤلاء الذين يستدعيهم القاضي للتحقيق “أبرياء أم مذنبين”، ما الذي يبرّر رفض الاستجواب، وتصوير الأمر وكأنّه “مؤامرة” ضدّهم؟
لعلّ الأنكى من ذلك أنّ “رموز” السلطة يعطفون أداءهم هذا على بيانات وجدانية وعاطفية تؤكّد إصرارهم على التحقيق حتى النهاية، لكشف حقيقة “جريمة الجرائم” كاملةً، لكنّه إصرار “ملغوم” طالما أنّه “مشروط”، علمًا أنّ تسهيل التحقيقات يتطلّب رفعًا تلقائيًا وبديهيًا للحصانات، حتى لو وُجِدت “تحفّظات” على أداء القاضي المعنيّ، والذي اختارته السلطة السياسية بالمناسبة، مثله مثل سلفه، ولم تكن النتيجة في الحالتين “مُرضية” لها.
ما مصير التحقيقات؟
إزاء ما تقدّم، يصبح السؤال المشروع: كيف لهذه السلطة أن تترجم أقوالها إلى أفعال، وتسهّل سير التحقيقات في جريمة انفجار المرفأ؟ فماذا تستطيع أن تفعل إذا كان مجرّد منح القاضي الأذونات المطلوبة لاستجواب شخصيّات تبقى “بريئة حتى إثبات العكس” مرفوضًا من قبلها؟ أيّ دورٍ تريد أن تصنع لنفسها وسط كل هذه “المعمعة”؟
قد لا يكون مثل هذا الأداء جديدًا، شأنه شأن “التناقض” بين تصريحات المسؤولين وأفعالهم، لكنّ التحقيق برمّته أصبح “في خطر”، وفق ما يقول البعض، خصوصًا أنّ المعلومات المتوافرة تؤكد أنّ القاضي البيطار لن يستجيب لطلب مجلس النواب “تزويده بأدلّة” ليبني عليها المقتضى، وثمّة من يخشى أن يكون ذلك “مبرّرًا” يتلطّى خلفه النواب لتبرير عدم رفع الحصانات عن زملائهم، خوفًا من “ظلم” قد يتعرّضون له، أو ما شابه.
قد يكون النواب أبرياء، وهو ما يفترض التحقيق أن يثبته، لا “الشعبويات البرلمانية”، لكن، ماذا عن أولئك الذين فقدوا أقرب الناس في لحظةٍ قاتلة لم يحسبوا لها حسابًا؟ ماذا عن أولئك الذين أصيبوا بعاهات قد ترافقهم طيلة العمر؟ ماذا عن جميع اللبنانيين الذين أصابهم التفجير بالصميم، والذين تعرّضوا لصدمةٍ ما بعدها صدمة قد لا يستطيعون تجاوزهم؟ هل من ينظر إلى حال هؤلاء، قبل حال نواب يعتبرون مجرّد استدعائهم لتحقيق “إهانة”؟!
في جرائم أقلّ من انفجار المرفأ بكثير، يسارع المسؤولون في الدول المتقدّمة إلى “المبادرة” لبعض المواقف، من جانب “أخلاقيّ” قبل كلّ شيء. في لبنان، مرّ الانفجار المروّع، كما لو أنّ شيئًا لم يكن، حتى إن الحكومة لم تستقِل إلا بعد أسبوع، وعلى وقع خلاف سياسيّ. وحتى تكتمل المسرحيّة الهزليّة، يخرج من يرفض رفع الحصانات، موحيًا بـ”مؤامرات” وما هو أخطر منها، ما ينذر بإمكانية أن يصبح “التحقيق الدولي” مطلبًا شعبيًا، رغم كلّ حملات “التخوين”!