يحيى دبوق
تحمل «هجمة» المواقف والتعليقات العبرية على أزمة لبنان، سواء بالتباكي أو بالتهديد أو بالضغط على الأصدقاء والحلفاء للدفع نحو مزيد من التردي الاقتصادي والتجويع، إشارات دالة على توقّعات المحور المحاصِر الذي يترقب وصول الأزمة الاقتصادية إلى مرحلة حرجة جداً، قد يُستعصى منع انزلاقها إلى حدّ لا يسلم معه حتى المحاصِرون.
مقالات مرتبطة
لماذا تخشى «إسرائيل» حرباً جديدة مع لبنان؟ ابراهيم الأمين
حتى وقت قريب، وجّهت تل أبيب إعلامها لإظهار «إسرائيل» جهة حياد تترقّب الأزمة في لبنان، وتحاول تقدير تأثيرها على عدوها الأول في لبنان والمنطقة، من دون إخفاء الأمل بأن يصل إلى حدّ يتسبب بفصل عامة اللبنانيين عن حزب الله، والرهان أيضاً على فصله عن بيئته المباشرة.
وكانت مواقف «إسرائيل» وتعليقاتها تتناغم مع مواقف وتصريحات جهات وأفراد في لبنان والمنطقة، عبر التغذية المتبادلة للروايات والتعليقات التي تساوقت إلى حدّ التطابق، من دون أن تُظهر «إسرائيل» أي موقف يتعلق بكشف دورها الابتدائي في الأزمة، وإن عبر تكاملها وتكافلها مع مسبّباتها الداخلية، أو عبر البناء عليها لتحقيق مصالحها، وبطبيعة الحال الامتناع عن كشف أي دور إسرائيلي في الضغط عبر الشريك الأميركي لاستمرار الأزمة وتعزيز أذيتها للبنانيين.
اختلفت المقاربة المعلنة في الأسبوعين الأخيرين إلى أن وصلت إلى مستوى بات يتناقض مع المقاربة الابتدائية: أكثر كشفاً لدور تل أبيب، وأكثر تظهيراً لحدود رهاناتها، سواء عبر تصريحات مسؤوليها بمختلف مستوياتهم، أو عبر تعليقات إعلامها.
فما الذي يدفع تل أبيب إلى إظهار موقفها، عبر الكشف عن جزء مما تقوم به وراء الغرف المغلقة من تخطيط وتحريض ورسم خطوات وتشديد حصار ومنع أي خطط وحلول للخروج من الأزمة الاقتصادية؟ وما الذي يدفع رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت إلى التأكيد أنه، ووزير أمنه بني غانتس ووزير خارجيته يائير لابيد، يراقبون عن كثب كل ما يجري في لبنان؟ فيما كانت المقاربة، ضمن هذا المستوى من المسؤولين، إما صامتة تمتنع عن التعليق، وإما تلعب دور المحلل السياسي والاقتصادي، وحسب، للساحة اللبنانية.
كما جرى التأكيد عليه، فإن أزمة لبنان فرصة سانحة لـ«إسرائيل»، وهي فرصة كبيرة جداً إن أحسنت استغلالها، ولأنها تأمل في تحقيق ما عجزت عنه خياراتها الأخرى في الساحة اللبنانية وعبرها باتجاه الإقليم. ولكن لا فرصة مطلقة، كما لا تهديد مطلق. إذ أن الواقع لا يتحدد وفق فرص وتهديدات يراها أحد طرفَي المعادلة، حتى ولو كان هو من بلورها وخطّط لها وعمل على الحث على تنفيذها. بل يتحدد، إلى جانب كل ذلك، عبر تفاعل الطرف الآخر وردة فعله وما يمكن أن يبادر إليه. وهنا، فإن الآمال المعقودة على الفرص قد ترتطم بواقع مغاير لما كان مخطّطاً له.
في الواقع، يُعدّ ما صدر عن بينت تقدير موقف إسرائيلي، اضطر لإخراجه إلى العلن نتيجة المتغيّرات في الساحة اللبنانية وخطورتها، وذلك عبر التأكيد على حالة التأهب والمواكبة، العسكرية والسياسية من خلال استحضار اسمَي وزيرَي الأمن والخارجية. والواضح أن الإشارة إلى غانتس كواحد من المتأهّبين هي إشارة تهديد ردعية في مقام أول وإن كانت أيضاً إشارة إلى مستوى قلق كبير جداً من إمكان تحول الأزمة اللبنانية بـ«فعل فاعل» لبناني إلى تهديد، أي إلى فرضيات متطرّفة باتت حاضرة على طاولة التخطيط والقرار في تل أبيب بناءً على التقدير بأن الأوضاع في لبنان وصلت إلى حدّ يُنذر بالانفجار، بما لا يُبقي «إسرائيل» في منأى عنه.
قد لا تسلم «إسرائيل» من تبعات أيّ فوضى في لبنان نتيجة قرار استباقي بتفعيل القليل من الفوضى مسبقاً باتجاه العدو
من هنا، فإن ما ورد من كيان العدو في اليومين الماضيين تحذيري وتهديد: هل تصل الفوضى قبل أوانها، وهل ينكسر الحد الذي يشدّد من يحاصرون لبنان على أنهم لن يتخطوه؟ وهل تكون هناك تطورات عسكرية، نتيجة فوضى تقدر تل أبيب أن الساحة اللبنانية ستصل إليها بسبب، الأمر الذي قد لا تسلم إسرائيل من تبعاته نتيجة قرار قد يأتي من داخل لبنان، عبر مداواة الفوضى استباقياً، بتفعيل القليل منها مسبقاً باتجاه «إسرائيل».
أما إشارة بينت إلى دور وزير الخارجية ومكانه في حالة التأهب، فلا تعني وحسب استحضار اسم لابيد ربطاً بمكانته وتأثيره في الحكومة الإسرائيلية، بل بالدور الذي يضطلع به خارجياً مع شركاء تل أبيب بكل ما يتعلق بلبنان، سواء ما يرتبط بالولايات المتحدة ودول أوروبية وازنة، أو ما يرتبط بحلفاء إسرائيل الخليجيين. وآخرها ما تسرب للإعلام العبري، بأن إسرائيل ضغطت على أصدقائها في الخليج كي لا يرسلوا أيّ مساعدة مالية إلى لبنان، حتى ولو كانت دولاراً أميركياً واحداً.
إلا أن في ما يُنشر في إسرائيل، وتحديداً في اليومين الماضيين، إشارات دالة على تهديدات أيضاً، إن لم تحسن إسرائيل التعامل معها ومنع بلورتها، فستكون النتيجة سيئة جداً لها، ليس فقط في إفراغ الأزمة اللبنانية من تأثيراتها السلبية على حزب الله كما أريد لها، بل أيضاً في تعزيز موقعه ومكانته نتيجة الأزمة نفسها.
من هنا تأتي تحذيرات إسرائيل وفقاً لما يُنشر في إعلامها من تسريبات: منع المساعدات المالية عن لبنان في سياق منع أي توجه شرقاً، أي سدّ باب الحلول الاقتصادية على خلافها؛ تأليب اللبنانيين على حزب الله بعد تجويعهم وتقديم المقاومة على أنها هي سبب هذا التجويع، في سياق منع المقاومة أيضاً من تقديم حلول تخفّف من وطأة الأزمة، وهنا يشترك بعض من في الداخل مع الخارج بالتضامن والتكافل؛ تحذير إسرائيل شركاءَها بأن منع انهيار الجيش اللبناني في سياق تفعيل الضغوط، يُعد مصلحة حيوية في سياق استراتيجية التسبب باستمرار الأزمة الاقتصادية وتعميقها، وإلا كما يرد في تسريبات عبرية «سيتسبب انهيار الجيش اللبناني في فراغ يعمد حزب الله وإيران إلى ملئه». والنتيجة هي أن «على أميركا دعم المؤسسة العسكرية في لبنان كي لا تنهار، لكن عبر مساعدات عينية، مع الحرص أن لا تكون مالية».
تسريبات الأمس، عن مصادر رفيعة في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية كما وردت في أكثر من وسيلة إعلامية عبرية، هي الأكثر دلالة على وجهة التقدير الإسرائيلية، وتفسّر انعطافة مقاربة تل أبيب العلنية، بعد أشهر طويلة من التفاؤل والرهان على إمكان النجاح الكلي: «استمرار الضغط إلى حدّ سقوط لبنان، يقرب إسرائيل من الحرب مع حزب الله».
يعني هذا التحذير أن الحرب حاضرة، نتيجة الأزمة في لبنان، على طاولة القرار في تل أبيب. ما يعني، في السياق، أن الضغوط الاقتصادية ستستمر وتتعاظم وإن كانت التسريبات العبرية تشير إلى حرص ابتدائي بأن لا تتجاوز الضغوط حدّ التسبب بالانهيار. علماً أن هذا الحدّ ليس بالضرورة متطابقاً مع ما يراه الجانب المقابل.