سياسة الضم الزاحف ستضع حماس في موقع “الزعيمة”!
الكاتب: شاوول أريالي وموتي كريستل
بعد تجارب عدة خاضها كيان الاحتلال كانت تسفر في كل مرة عن تراكم لنقاط ضعف كبيرة، ليس فقط بعدم تحقيق الأهداف المرجوة عسكريا بل أيضا للفجوات الأخرى، بدأت الأوساط الإسرائيلية تشهد دعوات للتخلي عن سياسة “إدارة النزاع” والتوجه نجو “حل النزاع” مع الفلسطينيين من أجل “شراء الأمن”.
صحيفة هآرتس قالت في مقال لها تحت عنوان “سياسة نتنياهو إدارة النزاع فشلت يجب العودة إلى حل النزاع” ان هناك تحديات عظيمة تواجه حكومة بينيت وان الاستمرار في سياسة “الضم الزاحف فإن ذلك سيسرّع في وضعها بين الدول المرذولة في المجتمع الدولي، وسيمس بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وسيدمر علاقاتها مع الأردن ومصر، وسيضع “حماس” في موقع زعيمة منظمة التحرير الفلسطينية، ويؤدي إلى موت اتفاقات أبراهام”.
النص المترجم:
الحكومة الإسرائيلية الجديدة تتضمن في داخلها فجوات سياسية وأيديولوجية كبيرة. ترميم الخراب، الذي خلّفته حكومات نتنياهو وشركائه جرّاء إضعاف الحكم وتآكل الديمقراطية وتدمير النسيج الاجتماعي، هو التحدي الأول المطروح أمام حكومة بينت – لبيد. لكن فشل نظرية “إدارة النزاع” بقيادة نتنياهو يفرض على الحكومة أن تتخذ في أقرب وقت ممكن قراراً حاسماً أساسه العودة إلى نظرية “حل النزاع”.
الفارق بين إدارة النزاع وحلّه هو أساس الجهود. إدارة النزاع تقوم على التخفيف من اللهب وإطالة الوقت بين جولات القتال، والتفريق بين الطموحات الوطنية للفلسطينيين وطموحاتهم الشخصية وعيشهم وحرية التنقل – من أجل تعزيز الاستيطان اليهودي وخلق شروط لضم الضفة العربية أو تقسيمها. حل النزاع مرتبط باتفاق دائم يفرض على الطرفين التنازل عن جزء من طموحاتهما وفي الوقت عينه الحصول على رد على قضايا هي في أساس النزاع.
لقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها في إدارة النزاع: في قطاع غزة اضطرت إلى مواجهة “حماس” التي تتعاظم قدراتها، ومشروع الاستيطان في الضفة الغربية بعيد جداً عن تحقيق الشروط التي تسمح بضم المستوطنات إلى إسرائيل، والمكون الإقليمي في عقيدة اليمين السياسي خسر مع حلول جو بايدن محل دونالد ترامب.
هذا الواقع السياسي يضع إسرائيل أمام الاختيار بين إمكانيتين لهما علاقة بنظامها. الإمكانية الأولى؛ تستطيع إسرائيل التمسك بسياسة الضم الزاحف، لكن ذلك سيسرّع في وضعها بين الدول المرذولة في المجتمع الدولي، وسيمس بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وسيدمر علاقاتها مع الأردن ومصر، وسيضع “حماس” في موقع زعيمة منظمة التحرير الفلسطينية، ويؤدي إلى موت اتفاقات أبراهام، ويزيد التوتر القومي وسط العرب في إسرائيل، ويُبعد يهود الولايات المتحدة عن إسرائيل، ويزيد العداء للسامية في العالم. العالم لن يتعود على الضم بعكس ادعاءات رئيس الحكومة نفتالي بينت. وستُعتبر إسرائيل دولة أبرتايد، وسيتعامل المجتمع الدولي معها وفقاً لذلك، وهو ما سيكبد إسرائيل ثمناً اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً باهظاً.
الإمكانية الثانية، تستطيع إسرائيل الدخول في عملية ترميم العلاقات مع الفلسطينيين: لتسوية موضوع قطاع غزة وتنفيذ خطوات تعزز استقرار حكم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وتشكيل زعامة موحدة تمثل الشعب الفلسطيني وتكون مستعدة لاستئناف المفاوضات وتوقيع اتفاق دائم بالاستناد إلى القرارات الدولية. هذه السياسة ستكون مرتبطة باستعداد وطني واسع للانفصال سياسياً ومادياً عن الفلسطينيين. وما دامت إسرائيل تتمسك بالإمكانية الأولى وتمتنع من الانتقال إلى الإمكانية الثانية فإن الثمن الذي ستضطر إلى دفعه سيزداد. لذا على الحكومة العودة إلى سياسة حل النزاع، لكن يتعين علينا هنا فحص جذور النزاع بيننا وبين الفلسطينيين.
في نظرية حل النزاعات يجب الانتباه إلى توضيح الوقائع، والأهم من ذلك فهمُ كيف يفسر الطرفان هذه الوقائع والوعي العام الناشىء في ضوئها على مر السنين.
الوعي الإسرائيلي مبني على السردية التي ترى في “فلسطين- أرض إسرائيل” – التي تضم أرض إسرائيل والضفة الشرقية من نهر الأردن (مؤتمر سان ريمو1920)- هي الوطن القومي الموعود للشعب اليهودي في تصريح بلفور. استند هذا الوعد إلى الاعتراف الدولي باليهود كشعب له الحق في تقرير مصيره في وطنه التاريخي، لكنه تجاهل العرب الذين شكلوا الأغلبية الساحقة من سكان البلد، وفق ما كتبه وزير الخارجية البريطاني جايمس بلفور في آب 1919: “الصهيونية لها أهمية أعمق بكثير من الطموحات والآراء القديمة لـ700 ألف عربي يسكنون هذه الأرض القديمة.”
بحسب السردية الإسرائيلية، منذ سنة 1920 “تنازلت” الحركة الصهيونية عدة مرات لمصلحة العرب. التنازل الأول كان في سنة 1922 مع إخراج شرق الأردن من تصريح بلفور وإنشاء المملكة الأردنية فيه.
التنازل الثاني كان في الموافقة على قرار التقسيم في تشرين الثاني 1947، الذي نص على أن تقوم إلى جانب دولة يهودية على 55% من الأراضي دولة عربية على 45% من الأراضي. لكن هنا أيضاً المقصود ليس تنازلاً للحركة الصهيونية. أولاً، لأن دافيد بن غوريون هو الذي طرح اقتراح التقسيم في رسالة بعث بها إلى وزير الخارجية البريطاني في سنة 1947 جاء فيها: “التسوية الفورية الممكنة الوحيدة هي إقامة دولتين (في أرض إسرائيل)، واحدة يهودية وأُخرى عربية.”
ثانياً، الحدود التي اقترحها اقتراح التقسيم كانت الوسيلة الوحيدة لمنح جزء أكبر من الأرض للدولة اليهودية من دون خرق تصريح بلفور وكتاب الانتداب. الاثنان اشترطا أن تقوم الدولة اليهودية “مع المحافظة على الحقوق المدنية والدينية لكل سكان فلسطين من دون تمييز بين العرق والدين.” من أجل التوازن الديموغرافي في فلسطين الذي كان بنسبة 1:2 لمصلحة العرب، أوجدت حدود التقسيم في المنطقة التي خصصت للدولة اليهودية أغلبية يهودية ضئيلة 55% بهدف السماح بهوية يهودية في نظام ديمقراطي. وسعى بن غوريون لترسيخ قرار التقسيم بإعلانه قيام الدولة “على أساس قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة”.
منذ تلك النقطة ولاحقاً سعت الزعامة في إسرائيل لتوسيع حدودها بحسب الظروف. رفض العرب في البلد قبول قرار التقسيم وشنوا الحرب مع الدول العربية، الأمر الذي أتاح لإسرائيل توسيع حدود الدولة والاستيلاء على 78% من أراضي فلسطين. في حزيران/يونيو 1948 أعلن بن غوريون في جلسة الحكومة: “قرار 29 تشرين الثاني/نوفمبر مات. الحرب هي التي ستحدد حدود الدولة.” بعد أكثر من 19 عاماً، وفي خطوة غير مسبوقة، اعترفت الأمم المتحدة (القرار 242 بعد حرب الأيام الستة) بهذه الحدود (الخط الأخضر)، وطلبت من إسرائيل في إطار اتفاق سلام الانسحاب فقط من الأراضي التي احتلتها في سنة 1967.
السردية الفلسطينية مختلفة تماماً، ويجب علينا الاعتراف بها حتى لو لم نوافق عليها. في نظر الفلسطينيين، جذور النزاع تكمن في تصريح بلفور الذي أعطى الشعب اليهودي، الذي لم يكن يسكن في البلد، ولم يعطِ العرب سكان البلد الذين يشكلون الأغلبية الساحقة. الأمر الذي يتعارض مع فكرة تقرير المصير التي وُضعت بعد الحرب العالمية الأولى والقائلة “الأرض ملك لسكانها وليس للذين يحتلونها”.
في نظر الفلسطينيين، كل الأحداث التي وقعت منذ سنة 1917، بما فيها حرب 1948، هي سلسلة متواصلة من عمليات الدفاع عن النفس وعن الحقوق التي سُرقت في سنة 1917. لأعوام طويلة رفض الفلسطينيون الاعتراف بالقرارات الدولية التي تعترف بحقوق الشعب اليهودي ورفضوا كل اقتراحات تقسيم البلد. “قلنا للعالم إننا لا نوافق على تقسيم فلسطين الصغيرة، وإننا ننوي القتال ضده (قرار التقسيم)”، هذا ما أعلنه جمال الحسيني مندوب اللجنة العربية العليا في مجلس الأمن في الأمم المتحدة في نيسان 1948.
تغيُّر أساسي ومهم في الموقف الفلسطيني طرأ في تشرين الثاني 1988 عندما أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية قبولها قرار التقسيم واعترفت بالدولة اليهودية وبالقرار 242 الذي يرسّخ سيادة إسرائيل على الأراضي التي احتلتها في حرب 1948. بعد 71 عاماً انتقل الفلسطينيون من الحديث الذي يعتمد على الحقوق الأساسية، وعلى رأسها حق تقرير المصير في كل فلسطين- أرض إسرائيل، إلى الحديث الذي يعتمد على القرارات الدولية، ونشأت لديهم مقاربة جديدة لحل النزاع “مقاربة 78-22” فهم تنازلوا عن 78% من “الوطن الفلسطيني” لمصلحة إقامة دولة فلسطينية على 22% من أراضيها. أحمد قريع (أبو علاء) قال في سنة 2000: “خطوط 1967 هي الحدود… سنكون مستعدين للحديث عن تغييرات صغيرة في هذه الخطوط شرط أن تكون متبادلة ومتساوية في النوعية والحجم.”
التوتر بين السرديتين الإسرائيلية والفلسطينية كان يرتفع في كل مرة يجري فيها البحث في حل النزاع خلال ولاية حكومة إيهود باراك (كامب دايفيد 2000) وإيهود أولمرت (أنا بوليس في سنة 2008)، لماذا؟ بعد تجذّر السردية الإسرائيلية في الوعي العام الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة ظلت تتصاعد حتى عملية أوسلو: وتحولت أراضي الضفة الغربية من “أراض محتلة” إلى “أراض موضوع خلاف”. ضم القدس الشرقية أصبح حقيقة منتهية، وأكثر من ذلك قال يتسحاق رابين في الكنيست في سنة 1995: “حدود دولة إسرائيل هي ما وراء الخطوط الموجودة قبل حرب الأيام الستة… وفي طليعتها القدس الموحدة.” قبل مؤتمر كامب دايفيد اعتقد إيهود باراك أن هدف المفاوضات هو “تقسيم عادل لأراضي الضفة الغربية”. ومؤخراً “خطة القرن” لترامب، بتوجيه من نتنياهو، اقترحت القضم من 22% من الجزء القليل الذي يعتبره الفلسطينيون ما تبقى لهم.
العقد الأخير الذي امتاز بالجمود السياسي والسيطرة الإسرائيلية على المنطقة ج التي تمتد على 60% من الضفة الغربية، ولّد تصريحات دفعت بالوعي الإسرائيلي خطوة أُخرى إلى الوراء: أراضي المنطقة ج تعود إلى إسرائيل، في نظر الإسرائيليين، لذلك يعود بينت إلى التصريح عن رغبته في ضمها. لكن هذه الأراضي محتلة. الوعي الإسرائيلي الجديد الذي نشأ على خلفية مثل هذه التصريحات يعتبر ضم المنطقة ج خطوة عادلة لأنه يسكن في هذه المنطقة 450 ألف يهودي ونحو 100 ألف فلسطيني، على الرغم من أن أكثر من نصف الأراضي يملكها فلسطينيون.
في مفهوم المفاوضات من الواضح عدم وجود “مجال للاتفاق” في هذا الواقع. لا في مواقف الطرفين ولا في المقاربات التي تحدد الوعي العام. لكن الخبر الجيد هو أن مجال الاتفاق أو الاستعداد السياسي للاتفاق هي أمور دينامية تتغير. إيهود أولمرت الصهيوني التصحيحي أدرك أنه من الصعب تحقيق الأهداف الثلاثة للصهيونية – أرض إسرائيل الكاملة، والديمقراطية، وأغلبية يهودية – وقال لـ”معاريف” في سنة 2012: “طبعاً لو كنت قادراً على العيش على كل جزء من أرض إسرائيل، والعيش أيضاً بسلام مع جيراننا، والمحافظة على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل، والمحافظة عليها كدولة ديمقراطية، والحصول على دعم المجتمع الدولي، لكنت فعلت ذلك. لكن هذا غير ممكن… يتعين على الزعامة المسؤولة استخلاص النتائج والتخلي عن السياسات الشعبوية الرخيصة والتصرف بمسؤولية وجدية لا البحث عن شعبية سريعة وسهلة.”
والآن إلى أين؟ من المهم الاستمرار في التعرف على سردية الطرف الثاني وتقديمها إلى الجمهور. بحسب “مؤشر السلام” الأخير الذي نشرته جامعة تل أبيب (أيار 2021)، 57% من الجمهور يؤيدون إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين، و68% يؤمنون بأن هذه المفاوضات ستؤدي إلى سلام مع الفلسطينيين. كذلك 63% يعارضون “استمرار الوضع القائم”، و46% يعتقدون أن لديه فرصاً كبيرة للاستمرار.
عندما تفهم القيادات مصدر النزاع حتى لو لم توافق أو تقبل مواقف الطرف الثاني فإن هذا سيفتح الباب أمام التغيير. وتصبح التوقعات من المفاوضات واقعية، والأثمان التي يتطلبها الاتفاق الدائم مفهومة أكثر، والتصريحات التي تبلور الرأي العام أكثر عقلانية. وتصبح “إدارة النزاع” أو اسمها الآخر “استمرار الوضع القائم” مكلفة وغير مفيدة، ويصبح الطريق ممهداً أمام حل النزاع.
المصدر: هآرتس
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع