الطبقة الكولونيالية: استعمار غير مباشر باسم الحرية!

يتبادر الى الذهن أسئلة كثيرة حول الطبقة الكولونيالية colonus وأهدافها وادواتها خاصة ونحن نعيش على وقع الأزمات والاضطرابات السياسية والبنيوية والاجتماعية في العديد من دول المنطقة، التي لا طالما تغنّت بالاستقلال والسيادة وحرية اتخاذ القرار.

لكن يبقى السؤال الأهم في هذه المرحلة وبعد تجربة هذه الدول التي انتقلت من مرحلة الاستعمار المباشر الى مرحلة الاستعمار المبطن او غير المباشر، حول أدوات الاستعمار الجديد، ولماذا يعمل ارباب هذا الاستعمار على مواصلة التدخل لإنشاء طبقة جديدة لكن تابعة، كبديل مهمتها بناء أنظمة مرتبطة بكل مؤسساتها وتنظيماتها ومشاريعها بخطط ومناهج من صنيعة الاستعمار ومن مخلفات توجهاته، ولو بثوب جديد. إضافة الى ذلك، العمل على تنفيذ هذه المناهج الاستعمارية الجديدة للحفاظ على مصالح القوى الاستعمارية داخل هذه الكيانات “المستقلة” صوريا.

تحديد المفهوم

اٍنّ الطبقة الكولونيالية هي مجموعة من النخب، سياسية كانت او اقتصادية او ثقافية، تتولى زمام السلطة في مرحلة انتقالية وهي مرحلة ما بعد خروج الاستعمار وإعلان الاستقلال، والتي تتكفّل بعد ذلك بوضع العناصر الأساسية لبناء الدولة الجديدة. يتم تصميم مؤسسات الدولة الجديدة بقيادة هذه النخب، من قبل القوى الاستعمارية للسيطرة على الشعوب والاستمرار في أداء هذه الوظيفة بعد تغيّر الحالة من حالة الاستعمار المباشر الى حالة الاستعمار غير المباشر. صُممت هذه المؤسسات الجديدة لحماية الدولة التي يحددها الاستعمار من شعبها بدلاً من حمايتها من أطماع الجيوش الخارجية. وقد جادل البعض بأن هذه المؤسسات استمرت في أداء هذه الوظيفة بعد سقوط الإمبراطوريات الاستعمارية. لم يكن مستغربا أنّ العديد من الدول التي ظهرت بعد نهاية الاستعمار كانت غير ديمقراطية، هذا الإطار التوصيفي أفرز طبقة جديدة ضعيفة واجهت صعوبة في تنفيذ سياساتها وفي العمل على بناء الدولة بمعزل عن التدخل والهيمنة الخارجية.

إن مفهوم الطبقة يختلف جذرياً مع مفهوم النخبة ووفق هذا التحليل فقد لا يكون بين طبقة ما، نخبة يكون لها أي دور مجتمعي أو ذات تأثير في مجمل الحياة، وقد يكون في تكوين هذه الطبقة نخبة فعّالة لكنها ضعيفة وغير قادرة على اثبات ذاتها. لم يتفق علماء الاجتماع والسياسة على تاريخ ونشأة مفهوم النخبة وإن اتفقوا على أن ظهورها ضارب في القدم واستندوا في ذلك على تصميم الفيلسوف أفلاطون على أهمية أن تقود المجتمع فئة من النابهين الفلاسفة فضلا عن التأكيد على أن النخب كانت موجودة في كافة المجتمعات. وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن ظاهرة النخبة ارتبطت بالإنسان منذ بدء الخليقة وان اختلفت صورها ونوعية النخبة نفسها فهي مرتبطة بسياق زماني وسياق مكاني يحددان نوعها ودورها. بمفهوم الطبقة الكوليانية، تظهر النخبة ويتبادر للذهن أسئلة حول تركيبتها ودورها وتوجهاتها؟ هل هي نخبة جديدة أي جزء من طبقة بنيوية متكاملة مؤسسة لقيادة مرحلة ما بعد الاستعمار؟ هل هي نخبة جاهزة للقيام بذلك وكيف؟ من يقف وراءها؟ هل تمثّل القوى الثورية التي واجهت الحركة الاستعمارية وعملت على تحرير البلاد وشعبها؟ ام اننا امام نخبة مفبركة، اصطناعية، تقديرية لا تملك زمام المبادرة بقدر ما هي أداة من أدوات ترسيم المرحلة الجديدة. هذه الطبقة الكولونيالية، هي متنوعة وتحتوي على مجموعة من النخب السياسية، والثقافية، والتربوية، والعلمية، والاجتماعية، لكنها في الاغلب متصارعة فيما بينها وغير متجانسة، فالتنوع الفكري والايديولوجي والاختلاف في وجهات النظر بين من يطالب بالقطع نهائيا مع رواسب الاستعمار والتأسيس لبيئة سياسية جديدة، وبين من يرى في التواصل والتعاون مع قوى الاستعمار مفيد وعملي، وقد يسمح بتجاوز الصعوبات، انطلاقا من قاعدة “أنّنا بحاجة لهم لمساعدتنا على إعادة بناء ما دمّر”. من هنا، يأتي السؤال الأكبر، هل هذه النخبة أو تلك قادرة فعلا على ترسيم أسس التغيير؟ ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الصراعات؟ يقول بعض الخبراء بأن اغلب هذه الصراعات أيديولوجية وفكرية، لكن يبدو أنها أكبر من ذلك، فالمفهوم غير واضح ولرسم تعريف له لابد من النظر لهذه الطبقة الكولونيالية من زاويتين، زاوية التابع الذي لا يملك القدرة على بناء ذاته، أما الزاوية الأخرى فهي الكفاح المستمر لأجل الاستقلال الإثني والثقافي والسياسي والقطع النهائي مع بقايا الاستعمار. أثار فرانز فانون  جدلا كبيرا عندما تحدث عما أسماه بحقوق المستعمرين، الذين اجبروا على مغادرة المستعمرات لكنهم لا يزالون يحتفظون بخيوط اللعبة التي تحمي مصالحهم وذواتهم المالية، ومن هنا نشأت تصنيفات عديدة لطبقة كولونيالية جديدة وهي طبقة “برجوازية ما بعد الاستقلال” والتي اعتبرها فانون نخبة منافقة وتشكّل خطرا كبيرا على ثورة الاستقلال والمجتمع، إضافة الى النخبة المثقفة الزائفة والتي تقدم نفسها للعب دور الوسيط بين المستَعمِر والمستعمَر. ولم يهمل الحديث عن منطق من يوصفون بالخونة من المثقفين والمرتزقة. المنطق يقول، بأن محو الاستعمار يعني تغيير نظام العالم، ولنصل الى تحقيق هذا المسار لابد من ان يكون تغيير الوضع الاستعماري تغييرا كاملا، أي لا يختصر فقط على طرح المستعمر وإدارة المرحلة وانما بناء أرضية جديدة ووطن جديد. لكن يبقى الاشكال فيمن سيقوم بذلك هل هم الثوريون الذين قدموا التضحيات ولم يتعلموا فنون البناء بعد؟ ام المنتظرون على ضفاف المراحل والمتسلقون والمتصيدون للفرص؟ الواقع يقول بان من ضحى لا ينال الا شهادة تقدير أما المتربص فهو الفائز برتبة المتعلم الملحق بالمستعمر او التابع الضعيف. انبثاق طبقة جديدة بعد خروج الاستعمار القديم وتغير المناخ الجيو سياسي والاستراتيجي، وتغير الخرائط في المستعمرات وإعادة هيكلتها من جديد افرز عن تناقضات كثيرة على المستوى البنيوي والتنظيمي لنصبح امام مشهد استعماري جديد وبأدوات جديدة. نحن اليوم أمام صناعة استعمارية ملوّنة ومتعددة، انها طبقة انتهازية بامتياز.

• الطبقة الكولونيالية صناعة القوى الاستعمارية:

يمثل الاستعمار الجديد اليوم الإمبريالية في مرحلتها الأخيرة وربما الأكثر خطورة. في الماضي كان من الممكن تحويل بلد فُرض عليه نظام استعماري جديد – مصر في القرن التاسع عشر مثال – إلى أرض استعمارية. اليوم لم تعد هذه العملية ممكنة. لم يتم إلغاء الاستعمار القديم بالكامل بأي حال من الأحوال. لا يزال يمثل مشكلة لدول المنطقة، لكنه في كل مكان يتراجع. بمجرد أن تصبح منطقة ما مستقلة اسمياً.

إن جوهر الاستعمار الجديد هو أن الدولة الخاضعة له، تكون مستقلة من الناحية النظرية، ولديها كل الزخارف الخارجية للسيادة الدولية. لكن في الواقع، يبقى نظامها الاقتصادي كما خياراتها السياسية موجهة من الخارج.

يمكن أن يتخذ الاستعمار الجديد أشكالًا مختلفة:

– قد تحصّن القوة الإمبريالية أراضي الدولة الاستعمارية الجديدة وتتحكم في حكومتها. ومع ذلك، في كثير من الأحيان، تمارس السيطرة الاستعمارية الجديدة من خلال الوسائل الاقتصادية أو النقدية.

– قد تكون الدولة الاستعمارية الجديدة ملزمة بأخذ المنتجات المصنعة للقوة الإمبريالية لاستبعاد المنتجات المنافسة من أي مكان آخر.

– يمكن ضمان السيطرة على سياسة الحكومة في دولة الاستعمار الجديد من خلال مدفوعات مقابل تكلفة إدارة الدولة، ومن خلال توفير موظفي الخدمة المدنية في المناصب التي يمكنهم فيها إملاء السياسة، والسيطرة النقدية على النقد الأجنبي وفرض نظام مصرفي تسيطر عليه القوة الامبريالية.

– في حالة وجود الاستعمار الجديد، غالبًا ما تكون السلطة التي تمارس السيطرة هي الدولة التي حكمت سابقًا المنطقة المعنية. على سبيل المثال، في حالة جنوب فيتنام، كانت القوة الإمبريالية السابقة هي فرنسا، لكن السيطرة الاستعمارية الجديدة على الدولة انتقلت بعد ذلك إلى الولايات المتحدة.

– من الممكن أن تمارس السيطرة الاستعمارية الجديدة من قبل اتحاد المصالح المالية التي لا يمكن تحديد حجم تدخلها، ومن الأمثلة على ذلك سيطرة المؤسسات المالية الدولية الكبرى على لبنان.

– نتيجة الاستعمار الجديد هي أن رأس المال الأجنبي يستخدم للاستغلال وليس لتطوير الأجزاء الأقل تطوراً في العالم. يزيد الاستثمار في ظل الاستعمار الجديد الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة في العالم بدلاً من تقليصها.

النضال ضد الاستعمار الجديد يهدف إلى منع استخدام القوة المالية للدول المتقدمة بطريقة تؤدي إلى إفقار الدول الأقل نموًا، هو أيضًا أسوأ أشكال الإمبريالية. بالنسبة لأولئك الذين يمارسون الامبريالية، فهي تعني القوة بدون مسؤولية وبالنسبة لأولئك الذين يعانون منها، فهي تعني الاستغلال دون تعويض.

بدأت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية سياسة استعمارية مختلفة تمامًا. جرت محاولة متعمدة لتحويل المكاسب الاستعمارية من الطبقة الثرية واستخدامها بدلاً من ذلك بشكل عام لتمويل “دولة الرفاهية”. كانت هذه هي الطريقة التي تم تبنيها بوعي حتى من قبل قادة الطبقة العاملة الذين كانوا قبل الحرب يعتبرون الشعوب المستعمرة حلفاء طبيعيين لهم ضد أعدائهم الرأسماليين في الداخل.

في الأراضي الاستعمارية الجديدة، بما أن القوة الاستعمارية السابقة قد تخلت نظريًا عن السيطرة السياسية، إذا تسببت الظروف الاجتماعية التي سببها الاستعمار الجديد في ثورة، يمكن التضحية بالحكومة الاستعمارية الجديدة المحلية واستبدالها بحكومة أخرى تابعة. من ناحية أخرى، في أي قارة يوجد فيها استعمار جديد على نطاق واسع، فإن نفس الضغوط الاجتماعية التي يمكن أن تنتج ثورات في الأراضي الاستعمارية الجديدة ستؤثر أيضًا على تلك الدول التي رفضت قبول النظام، وبالتالي فإن الدول الاستعمارية الجديدة لديها سلاح جاهز يمكّنهم من تهديد خصومهم إذا ظهروا بنجاح في تحدي النظام.

أدى إدخال الاستعمار الجديد إلى زيادة التنافس بين القوى العظمى الذي أثاره الاستعمار على الطراز القديم. مهما كانت قلة القوة الحقيقية التي قد تمتلكها حكومة دولة استعمارية جديدة، فلا بد أن تتمتع، منذ حقيقة استقلالها الاسمي، بمنطقة معينة من المناورة. قد لا تكون قادرة على الوجود بدون سيد استعماري جديد ولكنها قد تظل قادرة على تغيير القيادات. في هذه المرحلة من تاريخ النظم السياسية بدت الدولة الاستعمارية الجديدة المثالية دولة خاضعة كليًا لمصالح الاستعمار الجديد، لكن وجود الدول الاشتراكية حينها جعل من المستحيل فرض الصرامة الكاملة للنظام الاستعماري الجديد. إن وجود نظام بديل هو بحد ذاته تحد للنظام الاستعماري الجديد.

1- يستمد حكام الدول الاستعمارية الجديدة سلطتهم في الحكم، ليس من إرادة الشعب، ولكن من الدعم الذي يحصلون عليه من أسيادهم الاستعماريين الجدد. وبالتالي، فإنهم لا يهتمون كثيرًا بتطوير التعليم، أو تعزيز القدرة التفاوضية لعمالهم الذين توظفهم الشركات الأجنبية، أو في الواقع اتخاذ أي خطوة من شأنها تحدي النمط الاستعماري للتجارة والصناعة، وهو موضوع الحفاظ عليه من قبل الاستعمار الجديد. وبالتالي، فإن “المساعدة” لدولة استعمارية جديدة هي مجرد ائتمان متجدد، يدفعه سيد الاستعمار الجديد، ويمر عبر الدولة الاستعمارية الجديدة ويعود إلى سيد الاستعمار الجديد في شكل أرباح متزايدة.

2- يتجلى التنافس بين قوى الاستعمار الجديد الفردية أولاً في مجال “المساعدة”، وطالما استمر الاستعمار الجديد لفترة طويلة، فستستمر مجالات الاهتمام، وهذا يجعل المساعدة متعددة الأطراف، قد تكون عسكرية بالأساس ولكنها تمتد لمجالات أكثر التحاما وحساسية وخاصة المجال الاقتصادي والاجتماعي.

الاستعمار الجديد هو حجر طاحونة حول أعناق الدول التي تمارسه، فما لم يتمكنوا من تخليص أنفسهم منه، فإنه سوف يغرقهم. في السابق، كان بإمكان قوى الاستعمار الجديد الهروب من تناقضات الاستعمار الجديد عن طريق استبداله بالاستعمار المباشر، لكن لم يعد مثل هذا الحل ممكنًا وقد تم شرح أسبابه جيدًا من قبل السيد أوين لاتيمور، خبير الولايات المتحدة في الشرق الأقصى ومستشار شيانغ كاي شيك في فترة ما بعد الحرب مباشرة، والذي كتب “آسيا، التي أخضعها الغزاة بسهولة وبسرعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أظهرت قدرة مذهلة على مقاومة الجيوش الحديثة المجهزة بالطائرات والدبابات والمركبات والمدفعية المتحركة. مناطق كبيرة في السابق تم غزوها في آسيا بقوات صغيرة، كان الدخل، أولاً وقبل كل شيء من النهب، ثم من الضرائب المباشرة وأخيراً من التجارة والاستثمارات الرأسمالية والاستغلال طويل الأجل، وهو يتم تغطيته بسرعة لا تصدق في الإنفاق على العمليات العسكرية. مثل هذا الحساب إغراء عظيم للدول القوية. وقد تم تطبيقه في جميع أنحاء العالم الأقل نموًا.

تنبأ ماركس بأن الفجوة المتزايدة بين ثروة الطبقات المالكة والعمال الذين توظفهم ستؤدي في النهاية إلى صراع قاتل للرأسمالية في كل دولة رأسمالية فردية. على سبيل المثال المقتطفات التالية من وول ستريت جورنال، الصحيفة التي ربما تعكس بشكل أفضل التفكير الرأسمالي للولايات المتحدة. في عددها الصادر في 12 مايو 1965، تحت عنوان “محنة الأمم الفقيرة، تشير الى أي البلدان تعتبر صناعية وأيها متخلفة”. وتوضح أنه لا يوجد “أسلوب تصنيف صارم”. فمن وجهة نظر صندوق النقد الدولي، الدول الصناعية هي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية وكندا واليابان. فئة خاصة تسمى “المناطق المتقدمة الأخرى” تشمل الأراضي الأوروبية الأخرى مثل فنلندا واليونان وأيرلندا بالإضافة إلى أستراليا ونيوزيلندا وجنوب إفريقيا. تشمل فئة “أقل تطورًا” لدى صندوق النقد الدولي كل أمريكا اللاتينية وتقريبًا كل منطقة الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا. بعبارة أخرى، البلدان “المتخلفة” هي تلك الواقعة في المناطق الاستعمارية الجديدة.

في الفقرة الافتتاحية من كتابه، الحرب على الفقر العالمي، الذي كتب عام 1953، لخص زعيم حزب العمال البريطاني، السيد هارولد ويلسون، المشكلة الرئيسية للعالم كما رآها حينها: “بالنسبة للغالبية العظمى من البشر، فإن المشكلة الأكثر إلحاحًا ليست الحرب، أو الشيوعية، أو تكلفة المعيشة، أو الضرائب. إنه الجوع.

• أدوات الطبقة الكولونيالية وحروبها الجديدة

تبدو الهيمنة والسيطرة وقيادة سياسات التدخل في شؤون الدول الأدوات الأساسية لتغذية الطبقة الكولونيالية التي عليها الامتثال الى أوامر واضعيها وداعميها الخارجيين من ارباب الاستعمار الحديث. تطرح هنا فكرة السياسة الخارجية الامريكية المبنية على التدخل لإسقاط رؤساء دول والاتيان ببدائل سياسية ونخب تخدم المشروع الأمريكي وتسوّق له داخليا. من هنا تنطلق عملية الفرز بين مختلف الاطياف السياسية والاجتماعية بين من يؤيد السياسات الامريكية ويدعمها ويدافع عنها على أساس انها المخرج الوحيد من الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين من يرفضها ويتصدى لها ويعمل على كشف أهدافها التدميرية والتفكيكية. يعترف بيركينز  بأنه “كقاتل اقتصادي” يتمحور عمله في غايتين أساسيتين هما: تبرير القروض الدولية الضخمة التي سوف تعيد الأموال إلى الشركات الكبرى، وثانياً العمل على إفلاس الدول التي تتلقى هذه القروض، بحيث تغدو أهدافاً سهلة حين يطلب منها خدمة ما مثل إقامة قواعد عسكرية أو التصويت لصالح بلاده في الأمم المتحدة أو الحصول على النفط.. الخ. كانت إيران أول بلد بدأ القتلة الاقتصاديون العمل فيه من خلال الإطاحة برئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق الذي بدأ بسياسة تأميم النفط. فقد رأت الولايات المتحدة الأميركية أن التدخل العسكري ضد مصدق قد يثير الاتحاد السوفياتي، لذلك قررت إرسال عميل وكالة الاستخبارات المركزية كيرمت روزفلت، وهو حفيد الرئيس السابق روزفلت، الذي بدأ في تنظيم التظاهرات وأعمال الشغب ضد مصدق، وأدت في النهاية إلى الإطاحة به. ومن هنا بدأت فكرة “القتلة الاقتصاديون”. ويشير بيركينز الى ان هناك بدائل في حال فشل ما اسماهم ” القتلة الاقتصاديين” ليأتي دور “بنات آوى”، أي الاستخبارات الأميركية. فقد كانت مهمتهم تصفية الزعيم الذي لم يخضع أو الانقلاب عليه. كما حدث مع مصدق في إيران وتورجيس في بنما الذي أراد استرداد سيطرة بنما على القناة. وقد نجح في مفاوضاته مع الرئيس الأميركي جيمي كاتر وانتقلت القناة الى السيادة البنمية. لكن المحافظين أقسموا على الانتقام، وقضى تورجيس في تحطم طائرته في 31 تموز يوليو 1981. وعند فشل عملية “بنات آوى” في اغتيال الخصم، يتحرك الجيش الأميركي لاحتلال البلد التي لم يتمكن من إخضاعه، كما حدث في العراق وسوريا واليمن وغيرها.

لم تخلف السياسة الأميركية في كل أنحاء العالم سوى الدمار والخراب وتصفية أو محاولة تصفية القادة المنتخبين شعبياً. ففي فنزويلا، جهدت أميركا للانقلاب على الرئيس هوغو تشافيز لكنها باءت بالفشل. لقد كان واضحاً أن الفشل لم يكن من نصيب القتلة الاقتصاديين وحدهم، بل من نصيب “بنات آوى” أيضاً. وهي كررت ولا تزال الامر نفسه في لبنان من خلال تضييق الخناق على السلطة والنخب السياسية والاهم على المقاومة وبيئتها، واستخدام كل الوسائل الممكنة لتثبيت منطق الفوضى وعدم الاستقرار السياسي، إضافة الى الحصار الاقتصادي الذي يستهدف ليس فقط بيئة المقاومة وحاضنتها السياسية والاجتماعية بل كل لبنان. بدأ منذ سنوات الحديث عن دور القوى الاستعمارية الجديدة وعلى راسها الولايات المتحدة في تغيير المفاهيم الدولية من خلال فرض مشاريع تقسيم وتفتيت جديدة في المنطقة بعد تردي ادواتها التقليدية (الأنظمة السياسية القائمة والتي كانت بمثابة الأدوات التابعة) وخرج مصطلح الشرق الأوسط الجديد وهي ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها هذا التعبير. لعل أشهر من أطلقته كانت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية، عندما جاءت إلى بيروت وسط احتدام الحرب الغاشمة التي بدأتها إسرائيل ضد لبنان في تموز2006. هو ليس شرق أوسط آمنا ينعم سكانه بالسلام والديمقراطية، ولكنه موقع صراعات محلية ودولية لا يبدو أن لها نهاية قريبة. والذي دفع إلى ظهوره ليس فريقا جديدا من المحافظين يتولى الإدارة الأمريكية في ظل رئاسة ترامب او غيره، ولكن لأن موقعه كإقليم فرعى في نظام عالمي يجعله يعكس بالضرورة التغيرات الحادثة في بنية هذا النظام العالمي. الشرق الأوسط الذي عرفته أدبيات العلاقات الدولية هو إقليم استقر في منطقة النفوذ الغربي سواء في ظل نظام توازن القوى الذي عرفه العالم قبل الحرب العالمية الثانية أو نظام القطبية الثنائية الذي عرفه العالم بعد هذه الحرب. توزعت دول الإقليم في ظل نظام توازن القوى بين الإمبراطوريات الاستعمارية البريطانية والفرنسية والإيطالية، واستمر معظمها يدور في الفلك الغربي في ظل نظام القطبية الثنائية بعد الحرب الثانية على الرغم من النفوذ السوفيتي الذي لم يعمر فيه سوى عقدين من الزمن وبدأ في الانحسار منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي. ومع التحول الحادث في بنية النظام العالمي منذ بداية القرن الحادي والعشرين نحو نظام متعدد الأقطاب لا يسود الاتفاق على قواعده بين القوى الكبرى على قمته، لذلك أصبح الشرق الأوسط بدوره مرآة عاكسة لهذا التحول العالمي، وفى مقدمة معالم هذا التحول بداية أفول نفوذ الدول الغربية في الإقليم وصعود قوى غير غربية تتنافس على تشكيل مستقبله بالتعاون مع قوى إقليمية فيه تخرج بدورها عن طوق الدول الغربية. ما هي معالم هذا التحول، وما هي آثاره على دول الإقليم؟

علامات أفول النفوذ الغربي عديدة، في مقدمتها أن الدول الغربية، وفى مقدمتها الولايات المتحدة ومعها بريطانيا وفرنسا وهما الدولتان صاحبتا الماضي الاستعماري في الإقليم، غائبة عن الصراعات الجارية في بعض دوله أو بين بعضها سواء كان ذلك في سوريا أو اليمن أو ليبيا أو الأراضي الفلسطينية، وحتى عندما تهتم واحدة منها بأزمة مع أو في دولة شرق أوسطية، فهي تفتقد رؤية واضحة للخروج من الأزمة المتعلقة بهذه الدولة أو عاجزة عن تنفيذ رؤيتها. لم يسقط النفوذ الغربي في الإقليم سهوا، ولكنه جاء محصلة لعدد من المتغيرات، منها أن صراعات الإقليم لا تهدد أمن الدول الغربية بصورة مباشرة، وحتى عندما تكون لها مضاعفات تسبب لها القلق، فهي تجد أساليب أخرى للتعامل معها. تضاءل الوزن النسبي للشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي مع التطورات الاقتصادية الهائلة فيما كان يعرف بالدول النامية خارج الإقليم سواء في شرق آسيا أو جنوبها أو في أمريكا اللاتينية. وقلت حاجة الدول الغربية بعد الصناعية إلى النفط في الشرق الأوسط وهي على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة التي يقل معها اعتمادها على مصادر الطاقة التقليدية والمواد الخام، أو أصبحت تجد مصادر بديلة للطاقة أقرب لها وأرخص وأكثر أمنا. وفى ظل هذه الظروف لا تجد هذه الدول داعيا للاحتفاظ بقوى عسكرية كبيرة في الإقليم، وخصوصا بعد تزايد التهديدات لوجود هذه القوى.

نتيجة انحسار النفوذ الغربي ظهرت قوى جديدة (روسيا، الصين والهند وغيرها) على المسرح الإقليمي، ومن خلال صعودها السياسي والاقتصادي والعسكري، بدأت في فرض تغييرات جديدة في تعاملها مع دول المنطقة. لا يعنى انحسار النفوذ الغربي اختفاء الدول الغربية الكبرى كفاعل على المسرح الإقليمي، فهذه الدول تملك اقتصادات متقدمة وقدرات عسكرية متفوقة ومستويات تكنولوجية راقية، فضلا عن قرب الأوروبي منها من الشرق الأوسط واستمرار العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن انتهى عهد احتكار هذه الدول الغربية للقدرة على تشكيل مستقبل الإقليم أو رسم خريطة دوله أو حتى تقرير استمرارية بعض نظمه أو العائلات الحاكمة في بعض دوله.

المأساة الكبرى في هذه الأوضاع أنها تنطوي على أخطار كبيرة تتحملها كل دول المنطقة وعلى راسها الدول العربية، ففي لبنان استخدمت القوى المرهونة للغرب ولا تزال عدة أدوات لصد أي مقاومة لمشروع التبعية مستغلة بذلك نفوذها الواسع والغطاء الإقليمي والدولي، إضافة الى فشل السياسات الداخلية وعدم قدرة ارباب السلطة ومؤسسات الدولة على مواجهة الازمات وحل المشاكل العالقة. ومع صعود نهج المقاومة لمواجهة وكشف هذه الاختراقات وهذه السياسات التبعية للغرب وامريكا، بدأت القوى المهيمنة في استخدام أدوات أكثر فاعلية مثل الاعلام والسياسة والاقتصاد والمؤسسات المالية والمصرفية وكل ما يرتبط بمقومات البناء والاعمار في السياسة والاقتصاد وفي الضمان الصحي والتربية والتعليم والثقافة والبناء الاجتماعي، لصدّ منسوب المقاومة العالي الذي بدأ في افشال خططها ومشاريعها.

يقرّ البعض بأن ما تعانيه دول المنطقة وخاصة الدول العربية يفوق مسالة مقاومة الهيمنة او محاولة بناء مشروع وطني حقيقي، فالمخاطر كبيرة وهي ترتبط أساسا بتحول هذه الدول الى مسرح صراع بين القوى الكبرى الجديدة والقديمة وحلفائها الإقليميين على نحو ما يجري الان في عدة مناطق، دون أن تجد في نفسها المقدرة على التصدي لهذا التنافس او لاستعادة أمنها واستقرارها. إضافة الى ذلك يبدو خروج بعض الدول العربية من محاولات إعادة تشكيل الأوضاع الإقليمية مثل ما يجري في ليبيا مثلا من المخاطر التي يجب الانتباه اليها. لكن اهم هذه المخاطر هو افتقاد الثقة في نمط التحالفات القائم مع الدول الغربية.


المصدر: مركز دراسات غرب آسيا

Exit mobile version