أما أن تكون أزمة لبنان فرصة إسرائيلية، فهي حقيقة لا تقبل الجدال. فرهان «إسرائيل» الطبيعي أن تحقق الأزمة ما فشلت هي فيه. ما يعني بداهة أنها لن تلجم نفسها عن التدخل لتحسين فرصتها الكامنة في الأزمة اللبنانية، وتوجيهها بما يخدم مصالحها، وخاصة أنها تدرك أنها تجد آذاناً صاغية لتوجّهاتها لدى الأطراف المؤثّرة في الأزمة، كما هي الحال مع الولايات المتحدة وأصدقائها في الخليج.
وليست «إسرائيل» الجهة التي ترفض تلقّي الفرص، هذا إن لم تكن هي شريكة في بلورتها. وأن تكون «إسرائيل» خارج دائرة الاتهام، وإنْ بالتكافل والتكامل مع الأسباب الداخلية التي لا نقاش في أنها تسبّبت بشكل رئيسي في دفع لبنان إلى الانهيار، يثير أكثر من علامة استفهام.
ما يرد من «إسرائيل» يحمل الشيء ونقيضه. ظاهرياً، وزير الأمن بني غانتس يحرص على تظهير «حياد» تل أبيب و«تعاطفها» مع لبنان، ويعرض المساعدات الاقتصادية لمنع «مشاهد الجوع في طرقاته التي ينفرط لها قلبه»؛ في المقابل، تؤكد التسريبات العبرية أيضاً، الوازنة، أن تل أبيب تضغط على حلفائها في كل الاتجاهات، ومن بينهم أصدقائها في الخليج، كي تمنع أي مساعدة اقتصادية للبنان.
عيّنتان تظهر تعبيراتهما في ما يرد من تل أبيب. واحدة «طنانة» تتباكى، وأخرى تعمل بجهد وإصرار على تعميق الأزمة في لبنان. المفارقة أن التباكي، كما ورد على لسان غانتس، سبقه قبل أيام وعلى لسانه أيضاً، تهديدات بقتل المدنيين اللبنانيين وتدمير بنيتهم التحتية، ضمن وتيرة تهديدات جاءت عالية جداً وربما غير مسبوقة، قادها غانتس نفسه، المتباكي على لبنان.
لكل من العيّنتين وجهة وهدف، ومن الممكن أن تستتبعهما خطوات وإجراءات أكثر انكشافاً ومباشرة، سواء ما تعلق بالتباكي، أو بالتحريض على تعميق الأزمة.
مع ذلك، يمكن استحضار التوجهات العامة للمسعيَين، عبر مواقف وأفعال الجانب الأميركي، المعبّر الأول عن مصالح «إسرائيل» في لبنان.
في الوقت نفسه، ولأهمية الموضوع وضرورات الإحاطة به، من المفيد الإشارة الى محددات العلاقة بصورتها الأوسع التي تحكم مجمل المقاربة الإسرائيلية للبنان، ومن بينها ضرورات التدخل، وإنْ بصورة غير مباشرة، لاستغلال الأزمة اللبنانية وتعميقها أكثر بما يخدم مصالح «إسرائيل». وفي مقدمة تلك المحدّدات، نظرة تل أبيب إلى الساحة اللبنانية بوصفها ليست جهة تهديد لأمنها وحسب، بل أيضاً ما يتجاوز لبنان ويؤذي دورها الوظيفي في المنطقة. وهو في ذاته كاف جداً كي يدفع «إسرائيل» إلى التحرك بفاعلية عبر أهمّ «الأدوات» الموجودة لديها التي لها دور مؤثّر وحاسم، في الأزمة اللبنانية: الولايات المتحدة الأميركية.
ففي التوجهات الاستراتيجية الإسرائيلية، يحتل لبنان موقعاً يرتبط بأطماع إسرائيلية تاريخية تعززت أكثر في العقدين الأخيرين، ربطاً بثروات اقتصادية لبنانية كامنة فيه، فيما هو أيضاً ساحة تهديدات تتعاظم مع مرور الوقت، بما لا يلجم «إسرائيل» عن لبنان وحسب، بل أيضاً بلجمها إن تعاظم التهديد أكثر، ودون أي مبالغة، عن ممارسة دورها الوظيفي الأوسع في المنطقة. ولبنان في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي ليس مجرد حيّز جغرافي مجاور، بل هو مصدر تهديد بات متميزاً في قدراته التي تجاوزت خيارات «إسرائيل» العسكرية والأمنية، التي عملت تل أبيب على اختبار معظمها، ومن بينها الحرب العسكرية المباشرة، من دون تحقيق انتصار فيها.
من هنا، يُستغرب استبعاد «إسرائيل» عن نقاشات الأزمة الاقتصادية في لبنان، ليس عن دورها في التسبب بها كونها افتراضاً محل جدل وأخذ وَرَدّ، لكن المستغرب هو استبعاد دورها وتأثيرها على تفاقم الأزمة بعد حصولها، وعلى استمرارها وتعزيزها، وكذلك على منع إيجاد الحلول لها، علماً بأن الأزمة محط اهتمام ورهان لدى تل أبيب، منطقي وطبيعي، سواء أعلنت ذلك أو أخفته.
الدور الإسرائيلي في الأزمة اللبنانية، المباشر وغير المباشر، هو واقعاً متطابق إلى حد كبير جداً مع السياسة الأميركية تجاه لبنان. إذ إن أولويات واشنطن في الساحة اللبنانية وما يرتبط بها هي «إسرائيل» ومصالحها وأمنها. أي أن السياسة الأميركية تجاه لبنان هي ترجمة من ناحية عملية لمصالح إسرائيل على الساحة اللبنانية، وإن جاءت هذه السياسة عبر إجراءات وقرارات وتوجّهات بقوالب أميركية.
من هنا، أيّ حديث عن دور أميركي في إنتاج الأزمة في لبنان، وإن جاء بالتكامل والتفاعل مع الأسباب الداخلية من فساد ومفسدين، هو تعبير عن مصلحة إسرائيلية.
وكان واضحاً جداً، منذ بدء الأزمة، أن لـ«إسرائيل» مصلحة في تعزيز الأزمة وتعميقها، ومن ثم استغلالها كظرف ضاغط يحسّن من فرصها ضد المقاومة في لبنان. تجلّى ذلك في أكثر من محطة وحدث في الأشهر الماضية، استدعت من المقاومة اتخاذ إجراءات رادعة، منها ما أعلن عنه، ومنها ما غاب عن التداول الإعلامي، وإن اتّضحت معالمه لاحقاً.
ولم تُخفِ «إسرائيل» جهودها، عبر ما تمظهر من أفعال وتوجهات الجانب الأميركي، في استغلال الأزمة إلى حدها الأقصى، وإن مع حرص على ألّا تتحول الى تهديد: دفع لبنان إلى حافة الانهيار، لكن دون الانهيار الفعلي. إذ لا هي ولا غيرها، وإن بمعية جهات لبنانية، ستكون قادرة على التحكم بالأوضاع الميدانية عبر الأدوات المعتادة في حال تحقق الانهيار الكلي للبنان. وهذا هو التوجه الأميركي ومحدداته، وهو بطبيعة الحال الترجمة الفعلية لمصالح «إسرائيل» وتوجهاتها.
لكن لا فرصة مطلقة، كما لا تهديد مطلق. من هنا تأتي محاذير المقاربة والتحديات: كيف يمكن الإمساك بالفرصة المتمثلة بالأزمة اللبنانية من دون الإضرار بها، ومن دون تمكين الأعداء، والمقصود هنا المقاومة، من تحويل التهديد الماثل أمامها الى فرصة مقابلة تضرّ بـ«إسرائيل»؟
حتى الأمس القريب، كان ما يرد من تل أبيب سردياً وتغطية إعلامية عبر نقل وترجمة مختارة وموجّهة لما يرد من لبنان. لكن في الأيام الأخيرة، باتت المقاربة الإعلامية والتسريبات مغايرة، وتشير الى خشية ما من إمكان نجاح حزب الله وحلفائه في تحويل التهديد إلى فرصة، وبما يكفل الإطاحة بالرهان الإسرائيلي على الأزمة.
إطلاق الضوء الأحمر في تل أبيب جاء بعدما تلمست جدية مساعي حزب الله وخططه في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية عبر إنهاء التحضيرات اللازمة لمباشرة تنفيذ تلك المساعي. من هنا، لم يحدث صدفةً قطعُ الطريق على أي محاولة لإيجاد حلول للأزمة عبر الشرق (ليست إيران هي الجهة الوحيدة فيه)، الأمر الذي استدعى جهداً إسرائيلياً في اتجاهين لم تتضح نتائجهما الكلية بعد، وإن تكفل الإعلام العبري تظهير نيات تل أبيب منهما.
تَرِد في الإعلام العبري تسريبات عن مصادر عسكرية، تشير إلى أن سيناريوات نتائج الأزمة في لبنان، تحمل أكثر من وجه، وإنْ كانت بأكثرها مقلقة لـ«إسرائيل». تأتي هذه التسريبات بعدما سبقتها أخرى، كانت مشبعة بالأمل والرهان على «نتائج طيبة». لكن حسبما تبيّن أخيراً (معاريف 09/07/2021)، «في الغرف المغلقة، تطلب إسرائيل من كل أصدقائها، أي الولايات المتحدة ودول أوروبية وكذلك دول الخليج، أن يمتنعوا عن تحويل حتى دولار واحد إلى لبنان طالما أن حزب الله يواصل إقامة مصانع صواريخ دقيقة في قلب بيروت. إسرائيل تؤيد مساعدة إنسانية للجيش اللبناني الجائع، لكنها تطلب عدم تزويده بوسائل قتالية إضافية يمكن أن توجّه ضدها».
تضيف «معاريف»، نقلاً عن المصادر نفسها، إن «السياسة الإسرائيلية تجاه الأزمة اللبنانية منطقية، لكن قد تكون لها نتائج غير مرغوب فيها. إذ في غياب مساعدة غربية، ستتدخل كل من روسيا والصين إلى الفراغ في لبنان، وستقترحان استثمارات في إعادة إعمار المرافئ وإقامة محطات طاقة ومعامل تكرير». وهو سيناريو، تقول المصادر، مثير للقلق، إذ «إنّ إسرائيل مرتدعة الآن عن العمل علناً ضدّ حزب الله في لبنان، وإذا تمّ تثبيت وتدٍ روسي أيضاً في هذا البلد، فتكون النتيجة ردعاً إضافياً لإسرائيل».