هيام القصيفي – الاخبار
الدعوة إلى وضع لبنان تحت إدارة دولية في ما يشبه ما حصل في كوسوفو، ليس نقاشاً حديث العهد، ولا يتعلق بتطورات آنيّة تتعلق بالانهيار المالي والاقتصادي. إذ إنه طرح في نقاشات استراتيجية وعبر مراكز أبحاث معنية بأوضاع المنطقة منذ أكثر من سنة ونصف سنة، عشيّة بدء ملامح الانهيار والانتفاضة في 17 تشرين الأول عام 2019. وكان يتردّد صداه بين الحين والآخر كلما اشتدت الأزمات الداخلية، لكنه لم يرقَ الى مستوى التداول به كقرار لدى عواصم نافذة. وقد تكون المرة الأولى التي يمكن الكلام فيها عن خطوة أكثر تقدماً عبر توصية لجنة الدفاع والقوات المسلحة في البرلمان الفرنسي. ورغم أن التوصية ليست قراراً، إلا أنها تعدّ تطوراً لافتاً في مسار العمل الفرنسي تجاه لبنان، وورقة جديدة تضاف إلى أساليب الضغط التي بدأ البحث فيها منذ مدة حياله والمسؤولين فيه.
كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك عاملاً أساسياً في تهيئة ظروف القرار 1559. لكن من أخذ القرار الى الحدّ الذي أصبح على ما هو عليه وتفاعلاته حينها، كانت الإدارة الأميركية. اليوم يكاد السيناريو يتكرر، فالفرنسيون يشكلون عامل ضغط أساسياً، منذ سنة حتى الآن، في الدفع في اتجاه ما هو أكبر من المبادرة الفرنسية بعد تعثّرها. لكن هذا الضغط لا يزال يراوح مكانه لأن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لم تتّخذ قراراً بعد في الدفع في أيّ من الاتجاهات. والفرنسيون في سعيهم للقيام بدور صلة الوصل بين طهران وواشنطن في الاتفاق النووي من جهة، وتعزيز حضورهم في لبنان من جهة أخرى، يدركون أن هناك تحدّيات تتعلّق بوضعهم الدولي بين الحضور الأميركي وانحياز الإدارة الأميركية أساساً الى بريطانيا وألمانيا أكثر من فرنسا، وبين سعيهم الجدي الى أن يعزز دورهم في لبنان حصانتهم الإقليمية والدولية.
في موازاة هذه التشابكات، يتجه الوضع اللبناني بسرعة تفوق تحرك الدول المعنية، نحو الانهيار. وهذا تماماً ما انعكس تكثيفاً للاتصالات الدولية في سباق بين السعي الى منع انفراط البلد بكل ما للكلمة من معنى، بما يضمن أكثر من الحفاظ على الاستقرار، وبين الضغط لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها، على افتراض «خاطئ» لدى هذه الدول أن الانتخابات ستبدّل المعطيات الحالية أو تقلب نتائج التصويت الشعبي السابق للطبقة السياسية نفسها، سلطة ومعارضة على السواء. وهذا هو التحدي الأكبر الذي تحاول باريس، مستندة الى واشنطن، التعامل معه من خلال تواصلها مع دول المنطقة. إلا أنها بدأت تدرك متأخّرة أن ثمّة استحالة في إبقاء الأمور تحت السيطرة، في ظل استمرار الانهيار الاقتصادي بوتيرة سريعة، وخصوصاً أن نتائج كل محاولات الدعم المالية التي كانت تراهن على الحصول عليها في إطار ترتيباتها العملانية لا تزال سلبية. وفيما تعمل باريس وواشنطن بأسلوبين مختلفين، إلا أن الأولى تحاول حمل العصا من منتصفها، بمعنى إبقاء العلاقات مع المكونات اللبنانية على توازنها، حتى إنها حاولت التصرف مع حزب الله بارتياح يشبه ارتياح فرنسا أيام الرئيس رفيق الحريري، من دون أن تفقد أوراق الضغط المؤثرة ومنها السعي مع السعودية لتأليف الحكومة بسرعة. لكن الغطاء السعودي الذي كانت تعوّل عليه لبقاء الرئيس سعد الحريري، لا يزال مرفوعاً. من هنا جاء طرح اسم الرئيس نجيب ميقاتي (بعدما سحب التداول بحكومة غير مرشحين للانتخابات) كحل يتمتع بشرعية سنية بعكس ما كانت عليه حال الرئيس حسان دياب. ثمة نقاط جرى البحث فيها بشأن موقف رئيس الجمهورية ميشال عون. فإذا كان سيقبل بميقاتي (أو أي شخصية سنية أخرى) من دون أن يقدم له ما لم يعطه للحريري، فهذا يعني أن الرئيس المكلف لن يتمكن من تأليف حكومة شأنه شأن الحريري. وإذا قبل الرئيس المكلف شروط عون، فهذا يعني أنه سيفقد الشرعية السنية، وتالياً سيبقى المأزق الحكومي على حاله. السؤال الثالث هنا هو: هل سيقبل عون التنازل عن شروطه، وكيف سيكون حال الرئيس المكلف إزاء الحريري ونادي رؤساء الحكومات السابقين في الحصول على ما لم يتمكّن الحريري من تحصيله؟
كل هذه الأسئلة تعكس الأفكار المطروحة التي لم تصل بعد الى صياغة مقبولة لمخرج للأزمة الحكومية. إذ تردّد أن بين الشروط الموضوعة لقبول ميقاتي تكليفه بحكومة جديدة الحصول على تعهد مسبق من حزب الله ورئيس الجمهورية بتأليف لا يتعدّى أياماً معدودة للحكومة، وبحرّية المفاوضات مع صندوق النقد وغيرها من الضروريات لوضع خطة إنقاذ اقتصادية. فكيف يمكن الخروج بمثل هذه التعهدات، من دون غطاء إقليمي ودولي، أكبر من دور باريس، يساهم في وضع مخارج للأزمة؟ حتى الآن، تتصرّف باريس كأنها راعية لحلول ومبادرات متواصلة من ضمنها الحصول على استقرار الوضع الداخلي. لكن النتيجة لا تزال سلبية لها وللبنانيين على السواء.