معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى – تشارلز ثيبو وجمانة قدور
يحرض هذا المقال الذي كتبه تشارلز ثيبو وجمانة قدور، ونشره معهد واشنطن للشرق الأدنى وكذلك صحيفة الفورين بوليسي على عدم السماح بالتطبيع العربي مع النظام السوري أو إعادة الإعمار. ويقدم خيارات مقايضة لممارسة الضغط على المنافس الروسي لعدم استخدام حق النقض حول قرار دخول المساعدات إلى مناطق المعارضة، أو التهديد بزيادة العقوبات على نظام الأسد أو الضغط على قوات سوريا الديمقراطية لتقليص تعاونهم مع القوات الروسية في شمال شرق سوريا، وإما مكافأة روسيا على التعاون بزيادة مساعدات COVID-19 لمناطق النظام، وتقديم المساعدة للمنظمات الإنسانية الأصغر فيها، وتسريع الموافقات على الترخيص للمواد الإنسانية الضرورية هناك. ويرى الكاتبان أن الوصول عبر الحدود إلى سورية قد أصبح بمنزلة اختبار إجهاد للعلاقة الوليدة بين بوتين وبايدن.
كلّ عام، يستأنف مجلس الأمن المفاوضات، لتجديد قراره للسماح بالمساعدات عبر الحدود إلى سورية، عن طريق تركيا والعراق. حيث تعتمد وكالات الأمم المتحدة على هذا التفويض من أجل العمل في سورية، من دون أن يقيّدها نظام بشار الأسد، الذي نادرًا ما يسمح للمساعدات بالوصول إلى مناطق المعارضة. لقد تحوّلت هذه المفاوضات إلى نقطة انفجار متكررة في دراما الحرب السورية؛ فبينما يؤيد أعضاء المجلس هذه التفويض بشكل عام، تستخدم روسيا بانتظام حقّ النقض (فيتو) لتخفيض عدد المعابر الحدودية التي تستطيع وكالات الأمم المتحدة استخدامها، إلى الحدّ الذي لم يبقَ اليوم سوى معبر (باب الهوى) مفتوحًا.
وعلى الرغم من أن إدارة بايدن أشارت إلى أن سورية لن تكون بعد الآن من أولويات واشنطن -على سبيل المثال، لم تعيّن حتى اليوم مبعوثًا خاصًا إلى البلاد، كما فعلت الإدارتان السابقتان- فإنها أنفقت قدرًا كبيرًا من الوقت ومن رأس المال السياسي في هذا الجانب من الصراع. وأخيرًا، حرص الرئيس جو بايدن، في اجتماعاته مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في شهر حزيران/ يونيو، على طرح القضية المتوترة منذ أمد طويل، المتمثلة في إيصال المساعدات إلى البلاد، حيث تخمد الحرب بعد عشرة أعوام، بينما الاحتياجات الإنسانية آخذة في الازدياد.
ولكن لا شيء مضمون، حتى الآن، بخصوص وصول المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى شمال سورية، حيث لا يزال المعقل النهائي للمدنيين والمتشددين المناهضين للأسد، والمدعومين من تركيا، يواجه هجمات من نظام الأسد المدعوم من روسيا.
لقد حوّلت إدارة بايدن مفاوضات مجلس الأمن هذا العام، بخصوص معبر الحدود الذي من المقرّر أن ينتهي تفويض عمله في 10 تموز/ يوليو، إلى اختبار استراتيجي لشهيّة روسيا للتوصّل إلى تسوية. وهذا بدوره يجعل المفاوضات الحالية لحظة حقيقة لمقاربة الإدارة إزاء الدبلوماسية في الشرق الأوسط. وعلى وجه التحديد، سوف تكون المفاوضات بمنزلة اختبار لمعرفة مسائل عدة: هل التواصل رفيع المستوى بين الإدارة كافٍ لإبقاء واحد أو أكثر من المعابر فعّالًا؛ وما أنواع التنازلات التي يرغب بايدن في منحها لروسيا ونظام الأسد، من أجل الحفاظ على وصول المساعدات؛ وهل بوسع بايدن خلق الزخم الذي يحتاج إليه لتحقيق أهداف أكبر في سورية؟
إن مسألة الحصول على المعونة الإنسانية إلى سورية معقدة للغاية وبسيطة إلى حد كبير.
فمن ناحية، يعدّ نظام إيصال المساعدات الذي تستخدمه الأمم المتحدة، منذ بداية الصراع السوري عام 2011، واحدًا من أكبر النظم وأكثرها تعقيدًا في التاريخ. تشرف الأمم المتحدة على ما يتراوح بين (2 -4) مليار دولار من المساعدات المقدّمة إلى سورية كل عام، وهي تمر عبر مئات الوكالات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية التي تتلقى التمويل من معظم المانحين الغربيين. هذا العمل هو الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ حيث إن عدد السوريين المحتاجين قد زاد بنسبة 20 في المئة منذ عام 2020، ويبلغ الآن عددهم ما مجموعه (13) مليون إنسان.
ومن ناحية أخرى، الأمور واضحة نسبيًا. والطريقة الوحيدة لتقديم المساعدات الكافية للسكان الذين يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية في شمال غرب سورية، وشمال شرقها، هي عن طريق المعابر الحدودية. والسؤال الدبلوماسي الأساسي الآن هو هل ستسمح روسيا، المتحالفة مع الأسد، لوكالات الأمم المتحدة باستخدام واحد أو أكثر من هذه المعابر، بما أنها تتمتع بحق النقض (فيتو) في مجلس الأمن. لقد استخدمت روسيا بالفعل حق النقض، كعضو دائم في المجلس، (16) مرة لصالح الأسد، وقد أوضح السفير الروسي لدى الأمم المتحدة بالفعل أنه سوف يفعل ذلك مرة أخرى، إذا لزم الأمر.
ومن دون قرار من الأمم المتحدة، فإن مقدمي المساعدات سيخسرون التمويل، ويتعين على كثير منهم أن يغلقوا أبوابهم، وذلك لأن قنوات الأمم المتحدة تحتاج إلى تمويل المنظمات غير الحكومية السورية الأصغر حجمًا اللازم السورية، وتساعدهم أيضاً في تجاوز بيروقراطية المنظمات المانحة. وتؤدي الأمم المتحدة أيضًا دورًا مهمًا في مجال النقل بتيسير شاحنات المساعدات، ولها إمكانية فريدة للوصول إلى السلع بالجملة، كما أنشأت آليات لمنع الجماعات المسلحة من توزيع المساعدات.
على الأقل، ينبغي أن يظل معبر (باب الهوى) مفتوحًا. ولكن هذا ليس مضمونًا، لأن الطبيعة الإنسانية للأزمة تُستخدم كسلاح. إن روسيا تدرك أن الولايات المتحدة -وأوروبا- تهتم بهذه القضية الإنسانية، ولذلك فهي تستخدم المساعدات عبر الحدود كفرصة للضغط وتحصيل النفوذ. في الماضي، حاولت -بلا جدوى- دفع الولايات المتحدة وحلفائها إلى تخفيف العقوبات. وانتهى الأمر بالولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين إلى بناء تحالف في مجلس الأمن يفوق تحالف روسيا ست مرات، ولكن موسكو ما زالت تنجح في إغلاق ثلاثة من المعابر الحدودية الأربعة، الأمر الذي كان له تأثير مدمّر على وصول المساعدات الإنسانية.
هذا العام، تختلف المفاوضات لأسباب عدة: فمجال التسوية أصغر (حيث لم يتبق سوى معبر واحد)، وترى واشنطن في المفاوضات اختبارًا لاستعداد روسيا للانخراط في حلول توفيقية أخرى ذات مغزى، وتنتهج إدارة بايدن الجديدة سياسة غير محددة إلى حد ما تجاه سورية.
بدأت عملية المفاوضات بجدية في 29 آذار/ مارس، عندما حضر أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، جلسة إحاطة لمجلس الأمن عن سورية. ومنذ ذلك الحين، ألقت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، كثيرًا من الخطابات حول أهمية المساعدات عبر الحدود في سورية، بل سافرت إلى (باب الهوى) نفسها للإعلان عمّا يقرب من (240) مليون دولار من التمويل الإنساني الجديد للولايات المتحدة، وللدفع نحو تجديد وتوسيع آلية عبر الحدود لتشمل معبرين مغلقين من قبل.
ومن خلال الاجتماعات الرفيعة المستوى والتصريحات والبيانات العامة القوية، تستثمر الإدارة قدرًا كبيرًا من رأس المال السياسي للفت انتباه الكرملين. أحد الافتراضات لمسؤولي الولايات المتحدة هو أنّ روسيا سوف تحاول الضغط في هذه المفاوضات، لتحقيق مكاسب سياسية، لكنّها لا تريد في الواقع إغلاق الحدود. وهم يعتقدون أنّ المفاوضين الروس يعلمون أن إغلاق الحدود سيخلق حالة عدم استقرار قد تؤدي إلى تدمير وقف إطلاق النار الهش في إدلب، وهي محافظة في الشمال الغربي. إن مثل هذا السيناريو يمكنه أن يكون سيئًا بالنسبة إلى كل من موسكو ودمشق؛ إذ لا تريد أيّ منهما أن تتعامل مع المعارضين بين سكان المحافظة البالغ عددهم (3,5) مليون نسمة.
لدى واشنطن بضع خيارات لتلوي يد موسكو. فقد تتخذ موقفًا عدوانيًا وتهدد باستخدام نفوذها، في حالة استخدام حق النقض الروسي من خلال فرض عقوبات متزايدة على نظام الأسد أو الضغط على قوات سوريا الديمقراطية، بقيادة الأكراد، التي تعمل مع الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، للحد من تعاونها مع القوات الروسية في شمال شرق سورية. وبوسع واشنطن أيضًا أن تتبع استراتيجية دفاعية، تمكنها من أن تكافئ روسيا على تعاونها، وذلك، على سبيل المثال، بزيادة المعونة الخاصة بـ (كوفيد -19) إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام، والسماح بتقديم المساعدة إلى المنظمات الإنسانية الأصغر حجمًا التي تعمل في تلك المناطق، والتعجيل بالموافقة على منح التراخيص للمواد الإنسانية اللازمة هناك.
وما ينبغي للولايات المتحدة ألا تستخدمه للتفاوض هو أساليب التطبيع وإعادة التعمير. وينبغي لها أن ترفض بقوة محاولات التطبيع مع النظام التي انطلقت في الخليج. إن هدف روسيا هو استعادة سمعة الأسد الدولية، والادعاء بأن الصراع السوري قد انتهى، وأن التطبيع مع النظام يمكنه أن يؤكد صحة استراتيجية الأسد في خطف المساعدات الإنسانية الدولية. وإضافة إلى ذلك، تريد روسيا رفع العقوبات عن الأسد للسماح بتمويل إعادة الإعمار من أوروبا، والخليج، والولايات المتحدة. ولكن أغلب هذه الأموال يمكن أن تعمل على تعويض موسكو وطهران عن دعمهما والاستثمار في المشاريع الكمالية للشركات الموالية للنظام والمحسوبة عليه، التي لا تؤدي إلى إعادة الإعمار الحقيقي للبلاد التي مزقتها الحرب.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تفعل ذلك بمفردها. ويجب أن تعتمد على شركاء موثوقين. وكما يعلم بايدن بالفعل، فإن تركيا قد تكون حليفًا من هذا القبيل، وذلك لأن لأنقرة دورًا فعالًا ومفيدًا في الدعوة إلى معبر (باب الهوى) في الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، تريد روسيا الحفاظ على شراكتها مع تركيا، وتريد تركيا إصلاح علاقتها المتوترة بالولايات المتحدة. ولا ترغب موسكو في خلق موجة لاجئين أخرى إلى تركيا، في وقت تحاول فيه أنقرة وواشنطن إصلاح علاقاتهما لاحتواء النفوذ الروسي. ويمكن أن تكون هذه الدينامية حاسمة للتعاون الإنساني المشترك.
وإذا ما دعمت تركيا الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة لفتح المعبر، فمن المرجح أن تطلب موسكو من أنقرة أمرين: تنفيذ التزاماتها في النسخة الأخيرة من وقف إطلاق النار في إدلب، ومن ضمن ذلك الدوريات المشتركة التي عرقلتها هجمات المتطرفين؛ وأن تسحب قواتها بالوكالة إلى الجنوب من الطريق الرئيس المؤدي إلى المدينة، وهو ما سيكون امتيازًا رئيسًا للمنطقة. إن هذه النقاط لن تكون رسميًا جزءًا من قرار الأمم المتحدة الجاري التفاوض بصدده، لكنها تشكل الفيل في القاعة (المشكلة الأساسية) في نيويورك، وموضوع دبلوماسية موازية مكثفة مع أنقرة.
وستكون أوروبا حليفًا رئيسًا أيضًا. جنبًا إلى جنب مع أميركا الشمالية، تقدم الدول الأوروبية حوالي 90 في المئة من التمويل الذي يدخل النظام الإنساني في سورية. وقد قامت ألمانيا وبلجيكا في مجلس الأمن بصياغة قرار العام الماضي، كما قامت بلدان أخرى متشابهة في التفكير، مثل فرنسا وبريطانيا، بدور مهم في تشكيل الحلول التوفيقية في مجلس الأمن، لدعم الجهات الفاعلة الإنسانية في الميدان. إن هذا التحالف الصغير شريك طبيعي لواشنطن، ولكنه يحتاج إلى صدِّ المحاولات المتكررة من جانب بلدان أوروبية أخرى، من ضمنها اليونان وقبرص وجمهورية التشيك، لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد، ومن ثم إضعاف الوحدة الأوروبية.
ينبغي لواشنطن أن تربط النقاط، وأن تعمل مع جميع الشركاء، بقدر ما تستطيع، لتجديد التفويض لعملية عبور الحدود التي لم تكن قط تتعلق بالاحتياجات الإنسانية. إن شمال سورية قضية بالغة الأهمية من الناحية الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تعاملها باعتبارها قضية إنسانية محضة. إذا أقرّت واشنطن بذلك، فإنها يمكن أن تحوّل المفاوضات الحالية إلى تدبير لبناء الثقة مع موسكو، يفتح الباب لمزيد من المفاوضات السياسية في سورية، وتجديد صدقية الولايات المتحدة الدبلوماسية في المنطقة. ولكن إذا لم تضغط واشنطن بما فيه الكفاية على موسكو، فإنها تخاطر بترك الملايين من الناس في شمال سورية تحت خطر أكبر.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع