في مسلسل “الخربة” السوري الشهير، يحدث في كلّ مرّة أن “أبو نمر بو قعقور (يؤدي دوره الممثل القدير دريد لحّام) وحين يقف عاجزاً أمام تحقيق غاية ما، يتعهد بأن “يبيع شنتانه” لأجل تحقيقها. و “الشنتان” يقع في الخانة هنا ضمن ميزان الشرف، أي استعداد الشخص لبيع أغلى ما يملك في سبيل تحقيق هدفه… فرنسا وفي واقعنا اللبناني تجسّد “أبو نمر” ومستعدة لـ”بيع شنتانها” لهدف تشليح “حزب الله” وحلفائه غالبيةً نيابية حقّقوها “شرعياً” في انتخابات ٢٠١٨ النيابية!
غالباً، يختلف الأسلوب الفرنسي عن قرينه الأميركي. الفرنسيون ومنذ أن دخلوا “اللعبة” عبر المبادرة الوليدة في أعقاب كارثة ٤ آب، بدا أنهم تقصدوا التودّد إلى الحزب المقاوم ـ المطلوب رأسه لديهم -، وقد بلغ إلى الحزب أن التودّد الفرنسي له ثمنه، ولم يطول أو بصعب عليه الأمر حتى اكتشفَ أن باريس تريد أخذ تنازلات من الضاحية “بالحياء” وإعتقاداً منها أن الحزب لن يُحرج طرفاً أوروبياً يُجالسه. وقد تعاظم اعتقادها حين مضى الحزب موافقاً على مضامين المبادرة الفرنسية لناحية تأليف حكومة مهمة من الإختصاصيين المستقلين، تمثل عملياً بالنسبة إلى الفرنسيين تفريغاً لأحد عناصر قوة الأكثرية، أي منعها من العبور بتمثيلها نحو تجسيده ضمن السلطة التنفيذية. كانت الخطوات الفرنسية مفهومة لدى الضاحية، لكن الأخيرة تعاملت معها ببراغماتية شديدة. تُرك الفرنسيون إلى مصيرهم، وكان الإعتقاد الراسخ أنه لن يطول بهم الأمر حتى يصطدموا بالحائط، وتظهر النوايا والخلفيات الحقيقية. عملياً، هذا ما حدث. حين بلغ للفرنسيين أن مبادرتهم عاجزة عن تحقيق مضامينها، تغيّرت لهجتهم. إنتقلوا من مشروع البحث عن حلّ للأزمة اللبنانية إلى التلويح بالتهديد وبالعقوبات، والآن بإرسال جحافل الجيوش إلى بيروت، ولم يطل بهم الأمر حتى نصّبوا أنفسهم وكلاء على السياسة اللبنانية من بوابة التوصيف الفرنسي بأن الدولة اللبنانية عبارة عن “دولة فاشلة”، ضالة، وتحتاج إلى من يرشدها، لذا، فلا بد من وصايتها. عملياً، بلغ التقريع الفرنسي أوجّه. في ما شوهد على الشاشات، ولو جزئياً من كلام للسفيرة الفرنسية تجاه رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب -الممثل الشرعي للسلطة التنفيذية الراهنة – على هامش “اجتماع السفراء” لم يكن غير مألوف، أو حدث كرد فعل كما يحلو للبعض التكهّن، إنما كان تعبيراً عن منطق وأسلوب مخاطبة بعض السفراء الأجانب للمسؤولين اللبنانيين، ولكن حدث هذه المرّة أن حصل التباس فظنّت السفيرة الفرنسية أنها في جلسة مغلقة، فأسهبت في السرد من دون قفازات. وهنا، آن غريو ليست استثناءً، فقد سبقتها دورثي شيا، ومُحال على رئيس الحكومة أن ينكر واقعة حضورها إليه ذات يوم مهدّدةً في عمق مكتبه بالحصار وعظائم الأمور إن عزم على التوجّه شرقاً. هنا، لم يعد “صباط” بيار دوكان المرفوع في حضرة الوزير غازي وزني خلال اجتماع رسمي إستثناءً إنما قاعدة! عملياً، يظهر أن باريس قد بدّلت من أسلوبها تجاه الحالة اللبنانية. عادت إلى صورتها الحقيقة كمشروع وصي دائم. باتت أكثر فجاجة في التعبير عن أهدافها. “الحرية” التي نالتها في التصرّف بحق دستوري لبناني، وعلى مرأى من أرباب السيادة كتسمية رئيس للحكومة العتيدة، لا يعود مصدره إلى قوة وجود الشخصية الفرنسية أو حضورها ضمن الحالة اللبنانية، إنما جحوداً لدى المستوى السياسي اللبناني وعلّة في أصله، وقد مثّل الفعل تكريساً لواقع وجود مفوض سامٍ وأكثر، قرّر انتداب التفاوض في مسألة لبنانية داخلية خاصة ومن دون العودة إلى من يفترض أنهم أولياء به. وهذا إنما لهو أرفع مستوى من الإنتداب بحق! وأبلغه حين تفرض الدولة المفاوض معها الآن على حق لبناني صرف (السعودية)، ألا يكون لبنانياً واحداً موجوداً عملاً بقاعدة أنها لا تُجالس لبنانيين للتناقش بأمور سياسية! عملياً، إنكشف الدور الفرنسي في لبنان على حقيقته، وواقع الأمر، لعلّه يكشف أن فرنسا باتت تنشط على أكثر من محور في ما له صلة بالقضية اللبنانية، وغايتها تسييل رغباتها السياسية فيه، ولو بالاكراه! إجتماعياً: تركز جهودها منذ فترة على لمّ شمل المجموعات الشبابية المعارضة أو المنضوية ضمن خانة الثورة، في جلسات شهرية تُعقد في قصر الصنوبر، ويتم فيها البحث بمسائل لبنانية داخلية. ولا تخفي السفيرة الفرنسية ميولها السلبية تجاه أطراف محددين داخل لبنان، وتقليب الحاضرين ضدهم وترسيخ فكرة في بالهم من أن هزيمتهم ممكنة من خلال صناديق الاقتراع وهذا يستبطن تحريض صريح على خوض الانتخابات بلوائح مشتركة ويمثل تدخلاً سافراً بشأن لبناني داخلي. ويفترض أن السفيرة الفرنسية لا صلاحية أو صفة لديها لجمع اناس وإملاء توجيهات عليهم (نعود هنا إلى الجحود اللبناني ذاته). السفيرة في واقع الحال، تنصّب نفسها راعيةً لهؤلاء، إنما لا تبخل في الإعلان أمامهم عن استعدادها لمدّهم بكل ما يطلبون في سبيل قلب المزاج العام الداخلي عبر صناديق الإقتراع. أمنياً: تتّهم باريس بتسريب أجواء عن مخاطر أمنية بشكل دوري إلى مقرّبين منها في الداخل اللبناني، وهؤلاء يتولّون تسويق تلك الفرضيات عبر الإعلام، ومنها الإنجرار نحو فوضى عميقة في الداخل اللبناني في حال بلغت الأزمة مداها. وفي تقدير البعض، أن تعميم تلك النماذج ـ على حقيقتها – يصبّ في خانة توفير ظروف المجموعات المعارضة للنشاط والعمل واتاحة الفرصة لديهم طالما أن رؤية باريس ترى ضرورة في الاستفادة من “حالة التفلت” واستثمارها سياسياً. أممياً: بلغ أن فرنسا، في وضعيتها الجديدة لبنانياً، “كوّعت” عن قرارها السابق رفض إدراج تعديلات على أصل القرار الأممي رقم ١٧٠١ تاريخ ٢٠٠٦. فرنسا في صورتها الحديثة، أي حين أصبحت ترى نفسها وصياً على لبنان، تطرح اليوم بالتعاون مع الولايات المتحدة تعديلات مشتركة على القرار المذكور من قبيل تفويض “اليونيفيل” العمل باستقلالية عن الجيش اللبناني ومنحها حق المطاردة والتفتيش ضمن نطاق عملها، وذلك حين يُطرح ملف التجديد لـ”البرانيط الزرق” الشهر المقبل. وفي ورقة التعديلات التي سُرّبت إلى بيروت، إشارة واضحة حول نية فرنسا تعديل “أساس تفويض اليونيفيل” وتحويلها من قوة ردع إلى قوة اشتباك، من خلال تفويضها استخدام القوة خارج حالات الدفاع عن النفس. ولعلّ اقتراح توسيع صلاحية القوات الدولية لتشمل كافة المنافذ الحدودية (بما فيها المرفأ والمطار) يتقاطع من حيث المضمون مع توصية “لجنة الدفاع والقوات المسلحة” في البرلمان الفرنسي حيال إرسال قوات دولية إلى لبنان بشكل طارئ وتحت سلطة الأمم المتحدة بذريعة تعزيز الأعمال الإنسانية. عملياً، المشروع الفرنسي يتحدث عن نفسه. لربما يقدّر البعض أنه الكلام الفرنسي مجرّد تهويل لتمرير “صفقة” أو هدف سياسي ما، عملاً بمحاولة “فرض رأي” في الداخل. مع ذلك، لا بدّ من أخذ ما تطرحه فرنسا على محمل الجد. من هذا المنطلق، لا بد للفرنسين أن يعوا أن لا مصلحة لديهم في تعريض جنودهم العاملين في الجنوب للخطر. الفرنسي يُدرك تلك المحاذير، ويدرك أكثر أن السباحة بعيداً في المياه اللبنانية غير مضمونة النتائج. النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع |