عماد الشدياق -أساس ميديا
العلاقة بين مصرف لبنان والمصارف ليست على ما يرام. هذا الأمر ليس جديداً، لكن يبدو أنّه آخذ التصاعد.
كانت الحرب تُخاض سرّاً بين الطرفين من “تحت الطاولة”، وبدأت اليوم تظهر على شكل سجالات في الإعلام، وبواسطة بيانات ومواقف وتسجيل نقاط، لا يدفع أثمانها سوى المواطنين والمودعين، نتيجة الأرقام القياسية التي يسجّلها سعر صرف الدولار في “السوق السوداء” مع بزوغ فجر كلّ يوم جديد، قافزاً الألف تلو الألف نتيجة خبرٍ من هنا أو شائعةٍ أو خلافٍ من هناك.
أمس تخطّى سعر الصرف 18800 للمرّة الأولى في تاريخه ببيروت. في وقت كانت أسواق أخرى في مناطق مثل البقاع والشمال تسجّل أرقاماً أعلى، قاربت الـ19000 ليرة خلال ساعات الظهر.
هي فرصة وجدها المضاربون “ثمينةً جدّاً” من أجل المضاربة واللعب بسعر الصرف وبأعصاب الناس، بواسطة التطبيقات التي لم تعكس قطّ، وخصوصاً منذ بداية فصل الصيف، توجّهات السوق ولا آليّات “العرض والطلب”، ولا حتى تهافت المغتربين اللبنانيين على بلدهم وصرفهم للدولارات، بل كانت على طول الخطّ لا ترضي إلاّ أهواء هؤلاء المضاربين والجهات التي تقف خلفهم.
هذا كلّه يحصل أيضاً على وقع هدوء المصارف المفتعَل، وبطئها في وضع اللمسات الأخيرة على آليّات تطبيق مضمون التعميم 158 لجوجلة الأسماء والبدء بدفع الودائع، وكذلك على وقع الشائعات والـFake news عن توقّف مصرف لبنان عن العمل بمنصّة “صيرفة”، التي سارع المركزي إلى نفيها.
لكن لا يأتي نفي المركزي، كما في كل مرّة، إلاّ في معرض زيادة منسوب الشكّ لدى المواطنين ولدى المعنيّين الأوائل بهذه المنصّة، المستوردين والتجّار، الذين دفعتهم جيوبهم إلى القلق والتحسّب.
فقد أصدرت جمعية المصارف، أمس، بياناً أعاد التذكير بموقفها الداعي إلى “ضرورة عدم المسّ بالاحتياط الإلزامي” لأنّه في نظرها يشكّل “جزءاً لا يتجزّأ من ودائع الناس”، وحمّلت السلطةَ مسؤوليّةَ استنزاف الودائع خلال السنوات الماضية، واعتبرت أنّ “الاستمرار بهذه السلوكيات سيقضي على إمكانات ربّما تساهم في إعادة النهوض الاقتصادي والمالي مستقبلاً”، محمِّلةً مصرف لبنان المسؤولية نفسها لأنّه يخضع لـ”الضغوطات التي تمارسها عليه السلطات السياسية خلافاً لقانون النقد والتسليف”.
دعت الجمعيّةُ المصرفَ المركزيّ، في الوقت نفسه، إلى “إعادة المبالغ المحرّرة للمودعين أنفسهم لأنّهم أصحاب هذا الحقّ، وعدم استعمال ما تحرّر منها جرّاء تخفيض المعدّل من 15% إلى 14% لأغراض الدعم”، كاشفةً أنّها تدرس إجراءات قد تلجأ إليها “للحؤول دون المسّ بالاحتياط” من قبل الدولة ومصرف لبنان. تناست أنّها هي مَن يحتجز أموال المودعين، منذ نحو سنتين، من دون أيّ مسوِّغ قانوني وأيّ وجه حقّ. خصوصاً مع “تعثّر ولادة” قانون الـ”كابيتال كونترول” في المجلس النيابي حتى اليوم، الذي تراه المصارف ضرباً من ضروب “التشفّي” و”التوعّد” اللذين تمارسهما السلطة السياسية ضدّها لأغراض قد تكون في المستقبل القريب زبائنية انتخابية مع قُرب الانتخابات النيابية، حسبما تكشف مصادر مصرفية مطّلعة.
وتردّ المصارف بتأخير دفع الودائع للناس أكبر قدر ممكن من الوقت، لأنّها بكل بساطة ترى أنّ “تحرير ذممها في هذا التوقيت الحرج لن يصبّ إلاّ في مصلحة هذه السلطة السياسية”، التي تسبّبت بالأزمة. لذلك دفعُ الودائع أمرٌ “لن تقدّمه بالمجان ومن دون مقابل”.
بطبيعة الحال، يدفع المواطن ثمن هذا التجاذب بين الطرفين في التزاماته وفي قوته اليومي نتيجة ارتفاع أسعار السلع. ويدفع أيضاً ثمنهما المودع نفسه، الذي بات اليوم معلّقاً في الهواء، لا يعرف ما هو الخيار الأفضل للحصول على أمواله: هل يوافق على التعميم 158 فيحصل على حفنة من دولاراته “الكاش”، وما يوازيها بالليرة اللبنانية على سعر 12000 ليرة لأَجَلٍ “غير معلوم”، فيخسر كل الخيارات المتاحة الأخرى، أم يعضّ على الجرح ويستكمل “قضم” وديعته بأبخس الأثمان؟
الخياران أحلاهما مُرّ. فالأوّل غير متاح للجميع، لكن مَن كان حسابه مستوفياً لشروط التعميم 158 سيحصل على 400$ من وديعته، وفقط على 65% ممّا يوازيها بالليرة اللبنانية (نسبة لسعر صرف 18500 في السوق السوداء)، وسيجهل مصير ما يتبقّى من وديعته، خصوصاً إذا كانت تفوق 50 ألف دولار. ومن غير المستبعد أن يسحبها على سعر 1500 ليرة، ما دام مصرف لبنان يتبنّى منطق الغموض والتعمية، ولا يقدّم الإجابات الشافية… وفي هذا الحال يفضّل بعض المودعين الانكفاء أو ربّما التريّث.
أمّا الخيار الثاني فهو أشدّ مرارة، لأنّه متاح للجميع وللحسابات المصرفية كلّها على سعر 3900 ليرة، لكنّه في المقابل يقضم نحو 80% من الوديعة، أي يجعلها تقريباً بقيمة الشيك المصرفي المبيع في “السوق السوداء”. وهذا الكلام يبقى صحيحاً إذا حافظ الدولار على سعر صرف بحدود 18000 ولم يواصل الارتفاع أكثر مستقبلاً… وهو أمر قد يبدو شبه مستحيل، مقارنة بالظروف الاقتصادية والحراك السياسي ذي الأفق المسدود والمرافق لمسيرنا… صوب “جهنّم”!