ناصر قنديل-البناء
– عندما واجه الزعيم انطون سعاده رصاصات الإعدام أطلق كلامه رصاصاً يُكتب في صفحة التاريخ كلمات لا تُنسى، غير آبه بالموت، واثقاً بالمستقبل، متأكداً أنه بهذا اليقين يستند الى جبل لا يلين هو حزب سيحمل عقيدته ويمضي نحو الهدف، وينتصر، قال سعاده “أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعدّ السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني، أما أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي، كلنا نموت، ولكن قليلين منا يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ، من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب، يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه، يستسقي عروقنا من جديد”.
– هذا هو نداء الدم الذي أطلقه سعاده وبقيت أصداؤه تتردّد، وتستنهض همم أبناء حزبه وعقيدته ليكونوا في عيون الزعيم أهلاً لثقته ويقينه، وسعاده الفيلسوف والمفكر لم يكن رومانسياً في فهمه العميق للحركات الاجتماعية التاريخية التي تحمل مسؤوليات نضالية جسيمة تجمع الفكر والاستعداد للموت، فهو يعلم أنه يبني حزباً في منطقة معقدة وشديدة التعقيد، وفي مجتمع لا يقل تعقيداً، ولذلك لم يكن خارج الإمكان بالمعنى التاريخي أن يعرف حزب سعاده أزمات وأن يعبر بمراحل شديدة الصعوبة، لكن يقين سعاده الذي لم يكن يسعى لتشكيل فرقة مريدين، بل لبناء حزب، أنه وضع عقيدة ومبادئ ونظاماً، وأرسى قيماً أخلاقية ونضالية ستتيح لحزبه تجاوز الأزمات، وقد أصاب. ففي كل مرة كان يظنّ البعض أن الحزب السوري القومي الاجتماعي يتشظى كان الحزب بعد الكبوة ينهض من جديد.
– في المحطات التاريخية الكبرى التي عبرت ببلادنا، كان القوميّون طليعة مقاتلة يبذلون التضحيات بسخاء ويتقدّمون الصفوف، ويرسمون السقوف، ويخطّون المسار حتى تتغير الأحوال، ويعود الألق للقضايا الكبرى التي ائتمنهم عليها سعاده وبذل دمه بيقين ثقته بهم لأجل أن تبقى القضايا حيّة، فكانوا في طليعة المقاومين لكيان الاحتلال، وقد جعل سعاده مقاومته بوصلة الخلاص، وكانوا المدافعين عن وحدة النسيج الاجتماعي في مواجهة الإرهاب، وقد كرّس سعاده أغلب ما قال وكتب ونظَم لتأكيد هذه الوحدة، وها هي المتغيرات تأتي لتقول إن الطريق الذي رسمه سعاده للخلاص، وظن الكثيرون أنه صار شيئاً من الماضي، يعود مشرقا بالحقائق الراسخة، فوحدة كيانات سورية الطبيعيّة تعود لتصير موضوعاً طازجاً في كل قضايا الحياة السياسية والاقتصادية، وخطورة الانقسامات على أساس الدين والعرق كشفتها الحروب والفتن، بعد رهانات وأوهام وأطماع، وبناء دولة المواطنة بلا وسيط بينها وبين مواطنيها، حاجة يصرّح بها كل ذي عقل، بعد عقم رهان وطول إنكار، أما فلسطين التي توهّموا أنها تاهت في النسيان تعود لتفرض حضورها في الميدان، وكأن كل شيء ينادي دم سعاده.
– في لحظات تراجع الدور من واجهة صناعة الأحداث يكتب للقوميين أنهم بقوا يمثلون بصيص الأمل وبقعة الضوء في آخر النفق، وهم نموذج مصغّر عن مشروع سعاده للأمة، بأخلاقيّاتهم وقيمهم، وترفعهم عن العصبيات والطائفيّة، وبتمسكهم بأهداف لا تلبث الأحداث أن تؤكد أنها الوصفة التي تحتاجها القضايا العالقة، والتحديات الراهنة، لذلك في ذكرى الشهادة يتجدّد نداء الدم للقوميين، ليعيدوا ترتيب بيتهم وأوراقهم، ويكونوا كما كان يقين سعاده، أهلاً لثقته بأنهم سينتصرون، وأن دماءه تضيء دربهم.
– لا يملك الذي يؤمنون بفكر سعاده، والذين يرون في حزبه واحة خير في صحراء التيه، أن يعظوا أو أن يقدّموا الوصفات، وأن يتدخلوا في الـ “كيف”، فأبناء سعاده هم المعنيون بإيجاد الوسائل التي تحقق الهدف، ما يملكه الذين ينطلقون من الحرص والإخلاص، هو إضافة نداء لنداء دم سعاده، والأمل بأن الحزب الذي انتصر على الأزمات سينتصر عليها مجدداً، ويعيد تركيز جهوده وطاقاته للقضايا التي يستحقها أن تكون قضاياه، وتستحقه أن يكون حزبها.