ميريام سويدان – صحافية لبنانية
66 في المئة من العائلات أصبحت تقترض المال لشراء الطعام في لبنان… تقرير “اليونيسيف” الأخير يحوي أرقاماً كثيرة قد تبدو لوهلة خيالية لولا أن تفاصيله تتجسّد في حيوات لبنانيين كثر “نسوا طعم اللحوم“.
“لم تكن ظروفنا عظيمة قبل الأزمة، لكنها لم تكن بهذا السوء، منذ اشتداد الأزمة الاقتصادية في لبنان أعيش وعائلتي أسوأ أيامنا… أولادي نسوا طعم اللحوم… أرى طفلتي تختنق أمام عيني يومياً وأنا عاجزة عن تأمين علاجها”، تقول ريما.
ريما هي ربة منزل وأم لأربعة أطفال وزوجة لرجلٍ عاطلٍ من العمل. “زوجي كان عندو مطعم صغير يبيع فيه الفلافل، ولكن مع تفشي وباء كورونا تراجع المبيع وساءت حالته الصحية فاضطر يسكرو، ومن وقتا عايشين من بيع موجودات المطعم”.
تشرح ريما لـ”درج” يومياتها، من الكهرباء التي لا تصل بيتها إلا ساعتين يومياً، واشتراك مولد الكهرباء الذي اضطرت إلى فصله بعدما فاقت الفاتورة الشهرية قدرات العائلة المالية، وصولاً إلى انقطاع المياه التي حرمت أفراد العائلة حتى من الاستحمام اليومي. الدواء مفقود من الصيدليات، لكنها في الأغلب تعجز عن تأمين كلفته. “أبحث على السوشيل ميديا عن أشخاص يتبرّعون بالدواء لتأمين علاج أطفالي وزوجي”، تُضيف.
قصة ريما تتقاطع مع قصص لبنانيين كثر تبدّلت ظروف معيشتهم مع تقلّص الطبقة الوسطى في لبنان، وتوسع دائرة الفقر والفقر المدقع. وفقاً لتقرير “اليونيسيف” حول ثقل الأزمة الاقتصادية على اللبنانيين، فإن 77 في المئة من العائلات لا تملك المال الكافي لشراء المستلزمات الغذائية الأساسية، و66 في المئة من العائلات أصبحت تقترض المال لشراء الطعام.
التقرير الأخير يحوي أرقاماً كثيرة قد تبدو لوهلة خيالية لولا أن تفاصيله تتجسّد في حياة ريما اليومية، وحيوات لبنانيين آخرين “نسوا طعم اللحوم”، أو تألّموا وتحمّلوا أوجاعهم لأنهم عاجزون عن تأمين كلفة زيارة الطبيب، أو شراء العلاج اللازم.
تحدّثنا مع ريما مطوّلاً، على رغم أن ذلك كان على فترات متقطعة نسبة لانقطاع التيار الكهربائي ولشبكة الانترنت الضعيفة جداً في معظم الأحيان، لأنها تتشارك فيها مع إحدى جاراتها.
أحداث ومواقف كثيرة روتها ريما تمنّت فيها “أن تختفي عن وجه الأرض”، أغلبها مرتبط بأطفالها، وبطلبات يُفترض أن يكون توفّرها بدهياً في بلدٍ آخر.
“بنتي بقيت لأيام تختنق بسبب مشكلة في جيوبها الأنفية وأنا عاجزة عن تأمين كلفة العملية الجراحية. بعد أيام تديّنا من أحد الأشخاص لتأمين كشفية الطبيب”. 120 ألف ليرة (نحو 6 دولارات على سعر صرف يساوي 18 ألف ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء) استطاعت أن تحمي حياة طفلة ريما (6 سنوات). ولكن ليس هذا وحسب، ابنها أيضاً (4 سنوات) يعاني من مشكلة في جهازه التنفسي، فيما أمّه عاجزة عن تأمين علاجه، “اضطررت إلى استخدام دواء منتهي الصلاحية، كان في الثلاجة منذ سنة، علماً أن هذا الدواء يُستخدم لـ20 يوماً فقط ثم تنتهي صلاحيته”، تقول ريما.
“أرى طفلتي تختنق أمام عيني يومياً وأنا عاجزة عن تأمين علاجها”.
عندما سألنا ريما عن كيف تؤمن قوت عائلتها اليومي، في ظل غياب أي مدخول ثابت للأسرة، أتى الرد سريعاً: “ها هي الصورة مباشرة، أطبخ مما توفّر من حبوب”… أرسلت ريما صورة عبر “واتساب” لطبقٍ من المعكرونة المسلوقة مع القليل من حبات العدس، من دون أي صلصةٍ أو منكّهات.
بوادر المجاعة بدأت تلوح في الأفق في لبنان، وذلك يتجلّى بتراجع استهلاك اللحوم بنسبة تفوق الـ85 في المئة بسبب الارتفاع الكبير في أسعارها، علماً أن استهلاك اللحوم هو عادة مؤشر سلامة المجتمعات واستقرارها. إذ يصل سعر كيلو لحم الغنم إلى 240 ألف ليرة، فيما يتأرجح سعر كيلو لحم البقر ما بين 140 و170 ألف ليرة، وهو ما يشكّل جزءاً ليس ببسيط من الحدّ الأدنى للأجور، الذي بقي ثابتاً على 675 ألف ليرة، على رغم خسارة الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي.
وفقاً لتقرير “مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية”، فإن 72 في المئة من الأسر في لبنان ستجد صعوبة في تأمين قوتها اليومي بالحد الأدنى المطلوب. إذ إنّ وجبة غداء أو عشاء عاديّة مكوّنة من سلطة وحساء وطبق أساسي (أرز ودجاج)، لأسرة مكوّنة من 5 أفراد، تُقدَّر كلفتها بـ71000 ليرة لبنانيّة يومياً من دون احتساب أي نوع من أنواع الفاكهة أو المياه والغاز والكهرباء ومواد التنظيف. بناء على هذه التّقديرات، من المتوقّع أن تتكلّف الأسرة على وجبة رئيسية واحدة نحو مليونين و130 ألف ليرة لبنانية خلال شهر واحد، أي ثلاثة أضعاف (3.16) الحد الأدنى للأجور تقريباً.
لم تقلها ريما مباشرةً، لكن إحساسها كأمّ عاجزة عن تلبية رغبات أطفالها الأربعة بدا أعلى من أي صمت. ريما لم تقل أنّ أحدهم طلب شيئاً وكسفته. لكنها قالت أن الشوكولاتة التي يحبها طفلها ارتفع سعرها إلى ألف ليرة. هي لم تقل إن أحد أطفالها يشتهي السمك، لكنها قالت “ابنتي تحبّ السمك”، بصوتٍ عاجز.
التقرير الذي نشرته “اليونيسيف” ورد فيه أن 30 في المئة من الأطفال في لبنان أصبحوا يذهبون إلى الفراش وبطونهم فارغة، بعدما لجأت عائلتهم إلى تخفيض الوجبات الغذائية اليومية. وأن 30 في المئة منهم لا يخضعون للفحوص الطبية الإلزامية، و76 في المئة من العائلات تعاني صعوبة مالية في شراء الأدوية الضرورية.
هذه ليست مجرد أرقام. إنها حياة ريما وغيرها ممن يعيشون انكماشاً اقتصادياً وحشياً، ليس نتيجة حربٍ أو صراع كما قد يخال أي متابعٍ للأزمة، إنما نتيجة فساد النخبة السياسية المتعمّد. وليست قصة ريما سوى مثال بسيط على مدى قسوة أزمة لبنان الاقتصادية، التي صنّفها البنك الدولي على أنها ثالث أسوأ الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع