التلبنُن العنصري
ربيع الدبس
في إبتهاله أمام معبد «الأكروبول»، يتحدث المفكر والعلاّمة الفرنسي إرنست رينان عن الراحلين إلى ما دعاه نهر النسيان، لأن علامات الطريق التي يتركها التاريخ قليلة، مستنتجاً أن الأخطر من التاريخ الهزيل والجغرافيا المطلوبة هو أن لا يتعلم الشعبُ التشبثَ بالتاريخ وبالجغرافيا.
إستعادت الذاكرة هذه المقولة «الرِّينانية» بعدما أتحفَنا نائب في تكتل «لبنان القوي»، من جديد، بالرواسب العنصرية الكامنة في نفسه ،والتي عَبّر عنها بالقول لفضائية لبنانية عن أقطاب سياسيين: «كان لازماً أن يذهبوا مع السوريين»… كأن الذهاب والإياب ينتظران قراره، أو كأنّ سورية التي كانت حتى في أوج محنتها أقوى من لبنان مهتمة بصغائر مقابلاتنا، بل كأن السوري عدوّ ولذلك انبرى «ممثل الأمّة» المتوتر يصنّف مرجعيات – تمارس السياسة قبل أن يحلم سعادته بمقعد برلماني- يصنَّفها في موقع «العِداء» المماثل !!!
للّه دَرّ هذه الثقافة الفارغة من أي مضمون سوى العنصرية المقيتة التي نشأتْ عليها أجيال، في تغريب إستلابيّ مُخَطَّط له من الخارج البعيد،المفضَّل لدى هؤلاء على القريب الذي أدار الملف اللبناني عندما كُلّف به بكفاءة لا تقاس بالفشل الذريع للإدارة اللبنانية بعد 2005. من دون أن يعني ذلك خُلوّ الملف من الأخطاء خلال الإدارة السورية له، لكن الساسة اللبنانيين كانوا مساهمين في تلك الأخطاء مساهمة الشركاء الطوعيين المستفيدين.
إن المسألة التي تثيرها الطروحات العنصرية ضد كل ما هو سوري تتخطى التبرير الأسوأ من تلك الطروحات، لتؤكد أن ثمة بنْية ثقافية خطيرة مهيمنة على بعض العقول التي غرسَتْ في أذهان قواعدها الشعبية الضامرة أن الوجود السوري الشرعي في لبنان كان «احتلالاً». كما تفتّقَتْ عبقريتها الفذة عن فكرة المطالبة بلوحة تذكارية في نهر الكلب «تُخَلّد» جلاء الجيش الذي ضحّى جنودُه بأنفَس ما لديهم واستشهد منهم الآلاف خصوصاً خلال الإجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وتحديداً في معركتَيْ عين داره والسلطان يعقوب!! وهي تضحيات مكتوبة بالوقائع المُثبتة والدم الأغلى، ما يُعرِّي شعارات المزايدة الجوفاء التي لم يعتبر مُطْلقوها من دروس الجغرافيا السياسية، ولا من مدرسة العمل العام الذي يُفترض بممارِسِهِ أن يتبصّر بعلوم السياسة والتاريخ والجغرافيا والإستراتيجيا بدلاً من جهلها أو تجاهُلها ، لأن هذا التبصر هو الذي يسدد البوصلة السليمة ويحسم القرارات الكبرى المتصلة بالمصالح العليا.
ربما احتاجَتْ ذاكرة التملق الطائفي إلى إنعاشها بحقيقة ساطعة مفادها أن سورية دخلت إلى لبنان بطلب لبناني وموافقة عربية ودولية، لكنها خرجَتْ منه بقرار مستقل لقيادتها التي ارتأتْ اتخاذ ذلك الإجراء بعد زلزال 2005.
يبقى أن لبنان وشعبه في حاجة إلى الخروج من مستنقع الفساد وكارثة الإفلاس وضياع الثقة الداخلية والخارجية بأهلية هذا البلد المتهاوي، الذي امتدّتْ إليه ألْسِنة جهنم قبل أن يصل هو إلى نيرانها. وهذه، وحدها، تستلزم استبدال عُدّة المفاهيم البالية بمنظومة تغييرية جديدة ترتقي بمُزاولي العمل السياسي إلى سوية رجال الدولة، وتضع حداً نهائياً للمراهقة السياسية التي أخفقَتْ حتى في تشكيل حكومة الحد الأدنى وشلّتْ أي حراك خلاق للإنقاذ، كما فَتَحَتْ ما بقي من أطلال هذا البلد المنكوب على جحيم الشقاء والخواء.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع