طرابلس الطليعية.. من أيام العز إلى عصر الفاقة!
توفيق شومان
لا تذهب القراءات المرتبطة بالإحتجاجات العاصفة التي تجري في مدينة طرابلس اللبنانية، بين حين وآخر، إلى أبعد من ضيق الرؤية الأمنية، فلا حراك يتحرك من دون فاعل مجهول او معلوم، ولا صرخة تخرج من حنجرة أيبسها الجوع أو الفقر، إلا وخروجها مدفوع الثمن، فطرابلس بحسب هذه الرؤية، مرة حاضنة لـ“دولة المطلوبين“، ومرة هي “قندهار”، وفي كل المرات هي ميدان لصراعات أمراء الأحياء والسياسة، أو خنادق ملتهبة تعكس تضارب المشاريع الإقليمية وتناقضاتها. ما حكاية طرابلس بالضبط؟ لم تكن طرابلس مدينة هامشية طوال تاريخها، فمنذ العصر الفينيقي وحتى إعلان دولة لبنان الكبير، كانت طرابلس إحدى أهم الحواضر المدنية والتجارية والإقتصادية والعلمية الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وهي مدينة ـ مركز على الدوام، كانت حدود ولايتها الإدارية، تمتد إلى مدن سوريا الداخلية مثل حمص وحماه وطرطوس واللاذقية، فيما حدود متصرفيتها بعد إتباعها لولاية بيروت، كانت تشمل عكار ومصياف وصافيتا وطرطوس شمالا، والمعاملتين جنوباً. هذه لمحة أولية للتحول الذي عرفته مدينة طرابلس، ومن كونها المدينة ـ المركز إلى كونها المدينة ـ الطرف التي تقع على حدود الهامش وأقل. يُجمع المؤرخون حول فينيقية النشأة الطرابلسية، لكنهم يختلفون حول مصدرية الإسم، فمن قائل إن طرابلس تعني “المدن الثلاث“ مثلما يذهب المؤرخان الإغريقيان، ديودروس واسترابون، في القرن الأول قبل الميلاد، حيث يقولان إن أهالي صور وصيدا وأرواد، انتدبوا ثلاثمائة عضو لتشكيل “مجلس شورى“ بهدف تنظيم العلاقات بينهم، فأقام الأعضاء في أحياء منفصلة في المنطقة التي دعيت لاحقاً طرابلس، وبهذا المعنى تكون طرابلس قد تشكلت من أحياء الصوريين والصيدونيين والأرواديين. وعلى هذا المذهب التفسيري لنشوء مدينة طرابلس، يذهب كثيرون من المؤرخين العرب، من مثل القلقشندي في الجزء الرابع من “صبح الأعشى“ حيث يقول “ومعنى طرابلس فيما قيل ثلاث مدن“، وكذلك هي حال ياقوت الحموي في “معجم البلدان” إذ لا يعترض على قول إبن بشير البكري إن “طرابلس بالرومية والإغريقية ثلاث مدن“، بل إنه يقول “وذكرنا أن طرابلس معناها الثلاث مدن، وهذا يدل على انها ليست بمدينة بعينها وأنها كورة“، ولكن أنيس فريحة يقلب ظهر مجن المؤرخين في “اسماء المدن والقرى اللبنانية“ فيقول “لا نرى داعياً أن يكون الإسم إغريقياً، فطرابلس أقدم من الإغريق، إذن لها إسم أقدم من مقدم الإغريق، ونحن نرجح أن يكون الإسم تير بيل ـ جبل الله، ثم أضيفت إليه اللاحقة الإغريقية، وبالقرب من طرابلس جبل إسمه تربل أي جبل الله”. والملاحظ أن إسمي طرابلس المختلف عليهما، لا يُنزلان من مكانة المدينة وطليعيتها، بل يدلان على علو شأنها، ففي التفسير اليوناني أنها مدينة اتحد الفينيقيون على أرضها، وفي تفسير انيس فريحة أنها جبل الله، وهل ثمة إسم أسمى من هذا الإسم؟ ماذا عن حدود طرابلس ودورها ومركزيتها؟ في دراسة فائقة القيمة بعنوان ”الحياة الثقافية في طرابلس الشام في العصور الوسطى” صادرة في عام 1972 لعمر تدمري، أن الملك ديمتريوس الأول إبن سلوقس الرابع، اتخذ طرابلس عاصمة له عام 162 ق.م، ثم أصبحت عاصمة للدولة الإيطورية حتى عام 64 ق. م، وفي عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، انطلقت من طرابلس أولى المعارك البحرية الإسلامية، المعروفة بـ“ذات الصواري”، وفي ذلك دلالة على قيمة وأهمية مرفئها، وفي عهد الدولة الطولونية (868 ـ905م)، تحوّل ميناء طرابلس إلى واحد من اكبر الموانىء المتوسطية، وعلى ما يقول اليعقوبي في كتابه “البلدان“ إن في طرابلس “ميناء عجيب يحتمل ألف مركب“. في عام 2012، خلصت مؤسسة “البحوث والإستشارات“ في دراسة ميدانية لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى أن أكثر من ثلثي سكان طرابلس يعيشون تحت خط الفقر خلال مرحلة الحروب الصليبية، غدت طرابلس عاصمة لإحدى أهم الإمارات، فقد توسعت حدودها من نهر المعاملتين في قلب لبنان، إلى طرطوس وبانياس في الداخل السوري، وحين تقلد أمرها بنو عمار (1070م) وهم من قبيلة كتامة المغربية ذات الميول الإسماعيلية، توسعوا نحو جبلة وعرقة وطرطوس وجبيل كما يذكر عمر تدمري، ولما زارها الرحالة ناصر خسرو، وسجل في مدونته المعروفة “سفرنامه“ قال فيها التالي “شوارعها وأسواقها نظيفة وجميلة، حتى تظن كل سوق قصر مزين، ورأيت في طرابلس ما رأيت في بلاد العجم من الأطعمة والفواكه، بل أحسن منه مائة مرة”. يقول يوسف الحكيم، رئيس القلم التركي في متصرفية جبل لبنان ومن أواخر الذين عملوا مع المتصرف أوهانس باشا، في كتابه “بيروت ولبنان في عهد آل عثمان“ أن سوريا “انقسمت إلى ثلاث ولايات: دمشق وحلب وطرابلس في عهد السلطان سليمان إبن السلطان سليم“، وفي كتابه الآخر “سوريا والعهد العثماني“ يقول الحكيم “أقضية اللاذقية الثلاث كانت ملحقة بمتصرفية طرابلس”، وعلى هذا النحو يجري حكمت بك الشريف (1870ـ 1948) في كتابه “تاريخ طرابلس الشام“ فيشير إلى أن أقضية “عكار وصافيتا وحصن الأكراد، تتبع لطرابلس”. وفي دراسة حديثة (1995) ورد أن السلطان العثماني سليمان القانوني، عمل على تقسيم بلاد الشام إلى “ثلاث إيالات او ولايات: الشام، حلب، وطرابلس التي ضُم إليها سنجقا حماه وحمص بالإضافة إلى سلمية وجبلة“ في داخل سوريا، كما يقول حسن يحيى في دراسة مستندة إلى وثائق مكتوبة باللغة العثمانية. معنى القول إن طرابلس، في مجمل تاريخها كانت مركزاً، وفوق ذلك، كانت غنية وثرية. حجم الفقر والحرمان في طرابلس كبير ومعقد، ولا يصح وصف الوضع بأن هناك جيوباً للفقر والحرمان يمكن عزلها عن بقية المدينة، الأصح القول بأن ظاهرة الفقر والحرمان واسعة الإنتشار في المدينة بإستعادة ما قاله ناصر خسرو عن جمال طرابلس وقصورها وأسواقها الكبيرة والنظيفة، وما قاله اليعقوبي عن مينائها العجيب، فالحركة التجارية والإقتصادية، شكلت معلما بارزاً في مختلف المراحل التاريخية للمدينة، فصادراتها من السكر كانت تغزو الأسواق الأوروبية كما يؤكد فيليب حتي في كتابه “لبنان في التاريخ“، وتميزت طرابلس بصناعة الورق والنسيج والإتجار بهما مشرقاً ومغرباً، كما يؤكد محمد كرد علي في “خطط الشام”، ولذلك وصفها إبن الأثير بأنها “أكثر المدن تجملا وثروة“، وعنها يقول إبن بردي “فيها من الأموال والذخائر ما لا يُحصى ولا يُحصر”. وفي النصف الأول من القرن العشرين، استمرت طرابلس مركزاً تجارياً عالي الشأن، فقد كان فيها أكثر من عشرة مصانع للصابون يصار إلى تصدير قسم كبير منها إلى سوريا والعراق وتركيا ومصر وقبرص، والثمار الحمضية إلى روسيا، والحرير إلى فرنسا، والأقمشة إلى سائر الأمصار والأقطار، مثلما ورد في كتاب صادر عام 1978 لمحمد نور الدين ميقاتي بعنوان “طرابلس في مطلع القرن العشرين“، وفي دراسة أعدتها مؤسسة “الكسندر جيب“ البريطانية للدولة اللبنانية عام 1947، ان معامل الصابون في طرابلس تسد حاجة الأسواق اللبنانية والسورية بنسبة لا تقل عن خمس وأربعين في المائة، وما بين العشرينيات والأربعينيات من القرن العشرين، عمل الطرابلسيون على إنشاء مصانع للزيوت والحديد والخشب المضغوط وتكرير السكر والنسيج والزجاج ومخازن لتبريد الفواكه، وكل ذلك في مسعى منهم للحفاظ على دور مدينتهم ومركزها، إلا أن مسعاهم عصفت بهم خيبات الأمل. ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة ان طرابلس انتقلت من المتن إلى الهامش، ومن المركز إلى الطرف، ومن عصور العز إلى عصور الفاقة، ولغة الأرقام التالية، تغني عن الشرح والإطالة: – في دراسة اعدها مركز “الدراسات الإنمائية“ عام 2010 بعنوان “الفقر في طرابلس” جاء ان “حجم الفقر والحرمان في طرابلس كبير ومعقد، ولا يصح وصف الوضع بأن هناك جيوباً للفقر والحرمان يمكن عزلها عن بقية المدينة، الأصح القول بأن ظاهرة الفقر والحرمان واسعة الإنتشار في المدينة، إلى درجة يستحيل معها فصل سياسات مكافحة الفقر عن مسار عملية التنمية الشاملة في المدينة كلها“. – في عام 2012، خلصت مؤسسة “البحوث والإستشارات“ في دراسة ميدانية لحساب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إلى أن أكثر من ثلثي سكان طرابلس يعيشون تحت خط الفقر. – نشرت صحيفة “الأخبار” اللبنانية بتاريخ 26 ـ 8 ـ 2013، تحقيقاً عن الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في طرابلس، مضمونه أن 80 في المائة من سكان طربلس يجتاحهم الفقر، وأما الذين يعيشون في حالة الفقر المدقع، فنسبتهم حوالي 26 في المائة. – بحسب تقديرات الأمم المتحدة عام 2015، فإن 26 في المائة من السكان الطرابلسيين يعانون من الفقر المدقع، بينما يرزح 57 في المائة عند خط الفقر أو دونه. – ورد في تقرير للبنك الدولي عام 2017، أن محافظة الشمال، تحتوي الأكثرية المطلقة من الفقراء اللبنانيين. – في تقرير لوكالة “رويترز” منشور في شهر أيار/مايو 2020، ان 66 في المائة من اليد العاملة في عاصمة لبنان الثانية، يجنون أقل من دولار واحد في اليوم. – وفق مجلة “فورين بوليسي” الأميركية في 21 أيار/مايو 2020، فإن الفقر بات شائعاً في طرابلس. – في شباط/فبراير 2021 قالت “مجموعة الأزمات الدولية“ إن طرابلس ومحيطها من أفقر المناطق في لبنان، وإلى هذه النسب المرتفعة عن أحوال الفقر في طرابلس، فإن خطر شيوع الأمية يوازي خطر الفقر. – يقول الباحث الإقتصادي الطرابلسي أيمن عمر، إن 23 في المائة من سكان منطقة القبة أُميّون، و20 في المائة ممن يسكنون في منطقة أبي سمرا أُميّون أيضاً. أي خلاصة يمكن استخلاصها؟ حتى لا يصار إلى الذهاب نحو اعماق التاريخ وبطونه، قد يكون من الأهمية القصوى القول بأن مدينة طرابلس، شكلت بإستمرار صورة عاكسة للتحولات المصيرية في لبنان والمنطقة جراء تفاعلها مع مجريات الوقائع وأحداثها، فبعد إعلان دولة لبنان الكبير، كانت طرابلس آخر المدن اللبنانية التي ارتضت بالهوية الوطنية الجديدة، وقصة عبد الحميد كرامي معروفة، وفي حرب العام 1948، قاد الطرابلسي فوزي القاوقجي “جيش الإنقاذ“ لتحرير فلسطين، وفي مرحلة المد الناصري كانت طرابلس في طليعة الطليعة، وفي مناخ التبدلات العقائدية والسياسية التي عرفها لبنان في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لم يكن من العبث أن يفوز القيادي البعثي المقرب من العراق عبد المجيد الرافعي بمقعد نيابي عام 1972، أو يتم تكليف أمين الحافظ المقرب من حركة “فتح“ بتشكيل الحكومة عام 1973، وفي الثمانينيات، حين سيطرت حركة “التوحيد“ على طرابلس، كان ذلك مؤشرا إلى بداية تمدد الإسلام السياسي، وفي أواخر التسعينيات، قرعت “أحداث الضنية“ أجراس الإنذار السلفية، وفي الإنتخابات النيابية عام 2018، كان الصوت الطرابلسي صارماً بقوله إن الولاء لتيار “المستقبل” لم يعد مطلقاً. ماذا بعد؟ هذه ثلاثة مشاهد لمن يرغب: ـ في احتجاجات تشرين الأول/اكتوبر 2019، كان لمدينة طرابلس أيامها ووقائعها التي لم يقرأها أهل السياسة في لبنان بعين ثاقبة. ـ في كانون الثاني/يناير من السنة الجارية، جرى حرق وتدمير لمؤسسات الدولة اللبنانية، في واحد من أكثر مشاهد الخروج عن الولاء للدولة. ـ في حزيران/يونيو من هذه السنة ايضا، كادت طرابلس تغرق في مواجهات لا سابق لها مع القوى الأمنية والعسكرية اللبنانية، ولولا قدرة قادر، لكانت الفؤوس وقعت في الرؤوس. في الختام؛ طرابلس تقرع أجراس نواقيس الخطر، فهل من أذن تسمع غير دبيب الأمن، وهل من عين تقرأ بغير أبجدية الأمن ولغة المؤامرة؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع