“حكماء صهيون” يحكموننا.. سجِّل يا تاريخ!
وفاء أبو شقرا
عرفناهم. اختبرناهم. شتمناهم. لم يرفّ لهم جفن حياء. هم يحتقروننا كشعب. وصفناهم بالتافهين والعاجزين والحمقى. لم يرفّ لهم جفن حياء. هم يحتقروننا كمواطنين. نعتناهم بالانتهازيّين والفاسدين والمرتكبين. لم يرفّ لهم جفن حياء. هم يحتقروننا كبشر. صرخنا “أنتم أسوأ المتآمرين والأعداء والقَتَلَة”. لم يرتجف لهم ضمير. إنّهم مجرمون. عندما أسبح عميقاً في التفكير، يخنقني القنوط. وأسأل نفسي عن جدوى الكتابة! لكن سرعان ما تستفزّني رؤية العصابة الحاكمة، وهي تمضغ السلطة كالماء ثمّ تبصقه بوجهنا. وهي تحفر مناجم الكراهية، ثمّ ترمي المحصول بين الأغنام السارحة في بلدنا المُلْتاع. فأعود مُكرَهة إلى حروفي. وعلى الرغم من كثرة القضايا التي يُكتَب عنها، غير أنّني أحتار في انتقاء كلماتي. لماذا؟ لأنّ “لكلّ مقامٍ مقال”، بحسب قاعدة الجاحظ الذهبيّة في التعبير. فتصبح الكتابة “عنهم”، أقرب إلى “كلام التنّور”. كلام زقاقي وانفعالي. يُصاغ بالنقّ والسباب. ولعبارة الجاحظ تكملة. “لكلّ مقامٍ مقال.. ولكلّ زمانٍ رجال.. ولكلّ ساقطة لاقطة.. ولكلّ طعامٍ أَكَلَة”. إنّه الإعجاز الجاحظي في البلاغة، ولا كلام بعد كلامه. والأدقّ، أن لا كلام يُقال عن طغاتنا الحاقدين. على كلٍّ، لم يعد ينفع معهم أيّ قول. فلا كلام في حضرة المجرمين. المجرم مخلوق لا يتكلّم. هل سمعتم مرّة مجرماً يتسامر مع قتيله؟ يتناقش مع ضحيّته؟ المجرم يحقد ويفعل ويمضي حيث يأخذه حقده. يقتل. يقمع. يعذِّب. يُشفي غليله. ليس ضروريّاً أن نعرِّف المجرم أو الجريمة. علينا، ربّما، توضيح معنى أن يكون الإنسان مجرماً على الطريقة اللبنانيّة. وليس أيّ إنسان. بل، تحديداً، الإنسان المسؤول في السلطة السياسيّة. طريقة رجل السلطة اللبناني في الإجرام تعني، أن يرتكب هذا الأخير جريمته وهو يدرك، مسبقاً، أنّه سيُكافأ عليها. فلقد تمرّس على الإيمان، بأنّ جريمته (العفويّة أو المتعمَّدة) إنّما هي “حسنة كبرى”. واجب وطني. وجريمته للإشارة، ليست جرماً عاديّاً. هي أكبر من فعلٍ شنيعٍ يرفضه القانون ويعاقب عليه. من فعلٍ يتسبّب بالضرر لغيره أو ينتهك القيم والمعايير الاجتماعيّة السائدة. فرجل السلطة اللبنانيّة مجرمٌ متسلسل. مثله مثل القاتل المتسلسل، في الروايات والدراما البوليسيّة والأفلام. أي، ذاك الذي يرعب القلوب ويقضّ المضاجع. بمجرّد شيوع خبر وجوده حرّاً طليقاً في المدينة. يتحرّك خفيةً بحثاً عن ضحاياه. وفي الأفلام، تضاعف الشرطة عدد دوريّاتها وتقيم الحواجز لاصطياده. يُحكِم السكّان إقفال الأبواب والنوافذ، خوفاً من تسلّله إلى عقر بيوتهم. عندنا في لبنان، تنقلب الآية. فالناس، يعرفون المجرمين المتسلسلين واحداً واحداً. يبحثون عنهم. ويفتحون لهم القلوب والمنافذ. وأكثر. تتعقّب قوى الأمن والقضاء كلّ مَن يطاردهم. تصوّروا؟! نعم هذا ما يحصل. رجل السلطة في لبنان يمتاز بسلوكٍ إجرامي منظَّم. والجريمة المنظَّمة، يا أصدقاء، لا يقوم بها أيّ مجرمٍ عادي. مجرموها، فوق العادة. ينتمون إلى العصابات والمافيات والجماعات الإرهابيّة وأجهزة استخبارات الأنظمة القمعيّة. قد يكون القتل ذروة الإجرام. كونه، ببساطة، يلغي حياة الإنسان. لكن، يوجد كذلك اختصاصات متعدّدة للجريمة المنظَّمة. فهناك الاعتداء الجسدي والنفسي. العنف على أنواعه. التزوير. الجرائم الماليّة. التهرّب الضريبي. الاحتيال. الإتجار بالبشر والجنس والممنوعات. ويُضاف إلى هذه الجرائم، جرائم أخرى لها “أبطالها”. سمّاهم عالم الاجتماع الأميركي إدوين سذرلاند (عام 1939) بـ”ذوي الياقات البيضاء”. فهؤلاء المجرمون هم، عادةً، من رجال الأعمال وأصحاب النفوذ ومن الطبقات الاجتماعيّة العليا. يتمتّعون بـ”مكانة مرموقة في نطاق مهنتهم”. عندنا في لبنان، تنقلب الآية. فالناس، يعرفون المجرمين المتسلسلين واحداً واحداً. يبحثون عنهم. ويفتحون لهم القلوب والمنافذ. وأكثر. تتعقّب قوى الأمن والقضاء كلّ مَن يطاردهم. تصوّروا؟! نعم هذا ما يحصل جرائم مجرمي “الياقات البيضاء”، غير عنيفة. غالباً ما يُجرِمون لدوافع ماليّة. جرائمهم تشتمل على الاحتيال والرشوة والتجارة من الداخل والاختلاس والجرائم الإلكترونيّة وغسيل الأموال وانتحال الشخصيّة والتزييف..إلخ. صحيحٌ، أنّ “زعماءنا” الوافدين من ماضينا الحربي استولوا على البلاد والعباد والمؤسّسات والأختام والشاشات. وصحيحٌ، أيضاً، أنّهم ارتكبوا جرائم برتبة “خمس نجوم”. لكنّ معظمهم يصحّ إدراجهم ضمن خانة مجرمي “الياقات البيضاء”. إنّما خطورتهم لها تمظهرات مختلفة عن تمظهرات سائر المجرمين. كيف؟ تنتحل “ياقاتنا البيضاء” صفة الناس الطبيعيّين. يتلبّسون بلبوس رجال السلطة. لبوس قادة الجماهير. تماماً، كما في حكاية “ليلى والذئب”. الذئب، خدع ليلى بأن لبس ثياب جدّتها بعدما التهمها. وضع نظّاراتها وقلّد صوتها. صدّقته ليلى الصغيرة. فانقضّ عليها وكاد أن يبتلعها، هي الأخرى! هؤلاء الذئاب، يا سادة، هم “قادتنا” اليوم. هؤلاء الوحوش، هم “زعماؤنا” المعاصرون. لكنّ خلفيّتهم الميليشياويّة، مسختهم أشباه حُكّام. فلا تلومنَّهم إذا عجزوا عن تدبّر شؤون الدولة. لأنّهم تعوّدوا التعاطي مع الزعران. سلوكهم الإجرامي المنظّم والميليشياوي يعتمد على إذلال “الآخر”. لقد فضحت “17 تشرين” طبيعتهم الإجراميّة هذه. عرَّتهم، وكان عريهم إنجازها الأهمّ (الوحيد؟). كشفت جوهر عملهم السياسي. إنّه التسويات، في ما بين مجرمي “الياقات البيضاء”، وإدارة المؤسّسات بالمصالح والصفقات المشتركة. تحالفهم يا ناس “تحالف شيطاني بين الفساد والترهيب”، كما وصّفه الرئيس الفرنسي العديم الخبرة في سياسات الدول (كما تبيّن). فهو لمس شيطانيّتهم، عندما رآهم يتناطحون على طيف الدولة. عندما أشركوه، وجوقة مستشاريه، معهم في “لعبة الكشاتبين”. فبدا مثل “عديم وقع بسلّة تين”. طبعاً، فشلُ ايمانويل ماكرون ليس موضوعنا. موضوعنا هو مَن فشّله. أي، مجرمو “الياقات البيضاء”. مَن جعلنا نقف أمامه، في مهبّ الإعصار. مَن جعلنا “فرجة عروس”، أمام البشريّة جمعاء. لقد استدرجوا العالم، بأسره، لحضور حفلاتهم التهريجيّة. ليشهدوا على المشهد الأخير. مشهد انتهاء الدولة. مشهد سقوط الوطن. مشهد سحْق الناس. لكنّهم ظلّوا يستعرضون حتّى بعد إقفال الستارة. بدأ التذابح المفتوح بين أطراف التسوية التي أسّست للعهد القوي. لا يحول دونها أدنى توجّس أو خوف على البلد والناس. إطلاقاً. لكن هناك سؤال يؤرقني: كيف وصل مجرمو “الياقات البيضاء” إلى السلطة؟ هو السؤال ذاته الذي جعله الصحافي المصري محمد توفيق عنواناً لكتابه (عام 2012). إنّما هو كان يتساءل، عن كيفيّة وصول الأغبياء إلى الحُكم! بالتأكيد، لم يخلق “زعماؤنا” من أرحام أمّهاتهم مجرمين. اعتنقوا مذهب الإجرام في السياسة والحُكم، على مراحل. تتلمذوا في مدارس الحروب والمجازر الأهليّة. وانتقلوا بعد ذلك إلى الاستفادة من تجارب حُكّام الدول المتخلّفة، الشموليّة بخاصّة. لا يخاف مجرمو “الياقات البيضاء” في لبنان إلاّ من أمرٍ واحد. أن تعود وترتسم أمامهم، مشهديّة ساحات 17 تشرين. هذا مصدر رعبهم الحقيقي والوحيد. لكن، هل كان يتطلّب تفريغ الساحات المنتفضة وتغييبها كلّ هذا الخراب؟ كلّ هذا الإجرام؟ كلّ هذا البياض في الياقات؟ كان لا بدّ من نهل المعرفة من مناهل علم نفس الجريمة. فوضعوا الخطط والاستراتيجيّات لتهيئة القاعدة الشعبيّة. تهيئتها، لكي يفتكوا بالشعب بسلاسة. ومن دون مقاومة. تدرّبوا على دسّ السمّ في عروق البلاد. عرفوا، أنّ كلّ سلطة تقوم على الإكراه. وأنّ كلّ سياسة، هي صراع من أجل السلطة. فكّروا ونبشوا الأرشيف. فعثروا فيه على أهمّ الخطط والاستراتيجيّات للحُكم. إنّها “بروتوكولات حكماء صهيون”. قرؤوها وفهموها وباشروا التطبيق. يا إلهي.. ما أدهاهم! صُعقتُ، في الحقيقة، وأنا أقرأ في هذه البروتوكولات (للمرة الثالثة). فالشبه مريع، بين أولئك الحكماء وبين حُكّامنا. الخطط، ذاتها، للإمساك بالسلطة والاستمرار فيها. الاستراتيجيّات، عينها، لإخضاع وضعضعة قوّة الشعوب ومقاومتها. الإجرام، نفسه، لتطبيق تلك الخطط والاستراتيجيّات. استخلص حُكّامنا من “حكماء صهيون”، أنّ خير النتائج في الحُكم ما يُنتَزَع بالعنف والإرهاب. فالعنف هو التجلّي الأكثر بروزاً للسلطة. إنّه أقصى درجات السلطة. وليس أيّ عنف. العنف الحقود الذي هو، وحده، العامل الرئيسي في قوّة العدالة. أمّا السياسة، بمفهومهم، فهي لا تتّفق مع الأخلاق في شيء. ولا بدّ لطالب الحُكم من الالتجاء إلى المكر والرياء. فالشمائل الإنسانيّة العظيمة، تصير رذائل في السياسة. أيضاً، هذه السياسة تقضي بتعلّم مصادرة الأملاك، من دون أدنى تردّد، إذا كان هذا العمل يمكّن من السيادة والقوّة. فالحقّ (حقّنا) يكمن في القوّة. اسمعوا ما قالوا، أيضاً، وضعوا بجانبكم “طاسة الرعبة”؛ “يكفي أن يُعطى الشعب الحُكم الذاتي فترةً وجيزةً، لكي يصير هذا الشعب رعايا بلا تمييز. وإذّاك، تبدأ المنازعات والاختلافات التي سرعان ما تتفاقم. فالجمهور غبي. والذين سيرتفعون من بينه، سينغمسون في خلافاتٍ حزبيّة تعوق كلّ إمكانيّة للاتفاق. ولو على المناقشات الصحيحة. ستبرز، عندئذٍ، بذور الفوضى. ستتفجّر، حتماً، معارك اجتماعيّة. ويجب أن نكون صارمين في كبح كلّ تمرّد. ستندلع النيران في الدول. فيزول أثرها بالكامل. وفي هذه الأحوال المضطربة لقوى المجتمع، ستكون قوّتنا أشدّ من أيّ قوّة أخرى. لأنّها ستكون قوّة مستورة”. واقع رهيب، أليس كذلك؟ رهيب، أن يحكمنا حُكّامنا وفق “بروتوكولات حكماء صهيون”! رهيب، أنّ يتماهوا معهم إلى حدّ الاندماج الكلّي. حُكّامنا هم “صهاينة جُدد”. يا إلهي. أيُعقل؟ الآن فهمنا سبب خوف أهل السلطة من مجرّد فكرة خروجهم من الحُكم. عندهم جينات صهيونيّة! انظروا كم يشبهون بنيامين نتنياهو! فهذا المجرم الغني عن التعريف، تشبّث بيديْه ورجليْه بالكرسي. ارتعب من مغادرتها، لأنّ السجن بانتظاره. علماً أنّ محاكمته بدأت، وهو في سدّة الحُكم. أمّا المجرمون عندنا، فمطمئنّون طالما هم محصَّنون بالسلطة. يركنون إلى كونهم عصيّين على المحاسبة. زوّدهم القضاء والمشرِّع اللبناني وزعماؤهم الطائفيّون، بحبرٍ أحمر يدمغ كلّ جرائمهم. فيخطّون به ما يشاؤون من خطوطٍ حمراء. وأينما أرادوا. اليهود لم يفعلوها. الحاخامات في إسرائيل أشرف من شيوخنا وكهنتنا في لبنان. كلمة أخيرة. لا يخاف مجرمو “الياقات البيضاء” في لبنان إلاّ من أمرٍ واحد. أن تعود وترتسم أمامهم، مشهديّة ساحات 17 تشرين. هذا مصدر رعبهم الحقيقي والوحيد. لكن، هل كان يتطلّب تفريغ الساحات المنتفضة وتغييبها كلّ هذا الخراب؟ كلّ هذا الإجرام؟ كلّ هذا البياض في الياقات؟ “إخرجوا من أرضنا. من برّنا. من بحرنا. من قمحنا. من ملحنا. من جرحنا”، قالها يوماً الشاعر محمود درويش قاصداً المحتلّ الصهيوني. ونقولها اليوم للمجرمين في السلطة اللبنانيّة، من أتباع حكماء صهيون! إقتلاعهم صار واجباً وطنيّاً. إقتضى إطلاقنا، إذاً، “جبهة مقاومة وطنيّة جديدة”!