سباق “حزب الله” مع الثورة والدّولة

 

د. ميشال الشماعي-نداء الوطن

يتساءلُ بعضُ المراقبينَ عن حالةِ الجمودِ التي ضربَت الشعبَ اللبناني إزاءَ الأزماتِ المختلفةِ التي تعصُف بهِ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. ولا بدَّ من الاشارةِ هنا إلى أنَّ هذه الأزماتِ هي نتائج للسياسةِ التي اتّبعَتْها المنظومةُ الحاكمةُ في لبنان طوالَ العقودِ الثلاثةِ، بعد انتهاء الحربِ البغيضةِ. فلماذا لم يستطع الشعب اللبناني إسقاط منظومة الحكم التي أوصلت البلاد إلى الحضيض؟ ومتى قد يتمكّن النّاس من قول كلمتهم الفصل التي قد تسقط هذه المنظومة؟

في تشخيص الأزمة لا يمكن فصل الممارسات التي نجمَتْ عن تتابعِ الحكمِ من العامِ 90 وحتّى اليوم. لكن لا بدَّ من الاشارةِ هنا إلى أنَّ الفترة الفاصلة تكمن في العام 2008 بدءاً بالتّسوية التي نجح “حزب الله” بفرضها في اتّفاق الدّوحة بقوّة سلاحه، بعد محاولاته المتكرّرة للإمساك بالحكم، حتّى توصّل إلى وضع يده بالكامل على مقاليد السلطة مجتمعة بعدما نجح بالترهيب وبالترغيب بتقويض معظم الأفرقاء اللبنانيّين. فعقد تفاهم مار مخايل مع التيار بالترغيب، وبعد أحداث 2008 استطاع كسب ودّ أهل الجبل، وتحديداً الاشتراكيين منهم بالترهيب.

وهكذا أحكم “حزب الله” قبضته السياسيّة على البلاد، وأطلق يد حليفه البرتقالي في السلطة الذي عوض أن يعملَ وفقاً للشعاراتِ الاصلاحيّةِ التي رفعها انغمسَ في لعبةِ الفسادِ السياسي حتّى ضاعفَ قيمة الدّين منذ توليه الحكم، لا سيّما في وزارة الطاقة. وصولاً حتّى العام 2019 في 17 تشرين الأوّل حيث دخل الحزب في مواجهة مباشرة مع النّاس الذين ثاروا تمرّداً على واقعهم المزري. ولفضّ هذا الحراك الذي بدأ عفويّاً، لجأ الحزبُ إلى استخدامِ الترهيب بالاعتداء من قبلِ شوارعه المطواعة على المتظاهرين السلميّين؛ كما عمل وفق قاعدة علم نفس الاجتماع، حيث عمد إلى إلهاء النّاس برغيف الخبز، وحبّة الدواء، وتنكة البنزين. فانصرفوا عن المطالبة بالحرّيّات العامّة والرفاه، أي الصفات الموجودة في رأس هرم ” ماسلو” للإحتياجات الانسانيّة، واكتفوا بالاحتياجات التي وضعها ماسلو في قاعدة هرمه.

لذلك كلّه، خَبَت الثورة اللبنانيّة، وبات النّاس منهمكين بهمومهم اليوميّة حياتيّاً وأمنيّاً، وارتاح “حزب الله” منصرفاً لتطبيق مشروعه البعيد المدى الذي لم يخفِه عبر السنين. فعلى سبيل المثال لا الحصر مثلاً قال نصر الله في مقابلة مع صحيفة “الخليج” الإماراتية في آذار 1986: “لا نؤمن بدولةٍ مساحتها 10452 كيلومتراً مربعاً في لبنان، بل يستشرف مشروعنا لبنان في إطار خريطة سياسية لعالمٍ إسلامي لا وجود فيه لخصوصيات الدول، إنما تُصان فيه الحقوق والحريات وكرامة الأقليات”.

هذا هو لبنان الذي يريده “حزب الله” بكلّ صراحة. لبنانهم ليس لبناننا بل هو امتداد لأيديولوجيةٍ إثنيّةٍ، له كامل الحرّيّة أن يؤمن بها، لكن لا يحقّ له أن يعمّم عقيدته على اللبنانيّين كلّهم. لذلك لجأ إلى خطّة بديلة تعتمد القوّة النّاعمة التي ترتكز إلى وهج قوّة السلاح غير الشرعي الذي استطاع تكوين ترسانته طوال هذه السنين بتواطؤ الكثيرين معه. ولهذه الغاية عاد الشيخ نعيم قاسم وذكّرنا في كتابه “حزب الله المنهج والتجربة والمستقبل” الصادر في العام 2008 بطبعته الرابعة، في الصفحة 41 منه قائلاً: “إذا ما أُتِيحَ لشعبنا أن يختارَ بحرّيّةٍ شكلَ نظامِ الحكمِ في لبنان، فإنّه لن يرجّحَ على الاسلام بديلاً.

ومن هنا فإنّنا ندعو إلى اعتماد النّظام الاسلامي على قاعدة الاختيار الحرّ والمباشر من قِبَل الناس، لا على قاعدة الفرض بالقوّة كما يخيّل للبعض؟” وهذا ما نقله من الرسالة المفتوحة التي وجّهها “حزب الله” إلى المستضعَفين في لبنان والعالم سنة 1985 في الصفحتين 19- 20.

ما يعني ذلك أنّ “حزب الله” قد وصل إلى مراحل متقدّمة من مخطّطه، لكن أحداث 2019 قد عثّرته مجدّداً. ولكنّه اليوم يتابع بحسب قاعدة الشيخ قاسم ليوصِل اللبنانيّين بالترهيب والترغيب إلى القبول بما يريده على قاعدة الاختيار الحرّ معتمداً على الديموقراطيّة المباشرة، أي بمعنى آخر الاستفتاء. وكلّ ثورة أو مجرّد تحرّك جماهيري سيُقمَع ولو اضطرّ إلى استخدام القوّة. وهو لا يوفّر حتّى استخدام الدّولة بمؤسّساتها الأمنيّة والعسكريّة وحتّى القضائيّة بما له من نفوذ فيها. وآخر تجلّياته استدعاء العلامة علي الأمين الثلثاء بتاريخ 29/6/2021 إلى محكمة قصر العدل في بعبدا. ويمثّل الأمين الصوت الشيعي الأمين والحرّ من ربقة “حزب الله” في البيئة الشيعيّة كلّها، حيث يخوض مع الأحرار أمثاله مواجهة ضدّ القمع والترهيب وسياسة تركيب الملفات التي يجب على دولة القانون أن ترفضها.

منذ عامِ ونيّف، أدرك اللبنانيون أن سياسيّيهم قد سلبوهم كل شيء، وفي حالات كثيرة، حرموا أولادهم مستقبلهم. ومع ذلك، ظلّ المجتمع صامتاً. والشعب الذي لا يناضل من أجل مستقبل أولاده لن يناضل على الأرجح من أجل بلاده. وانتظار لحظة الحريّة التي ستولّد الارتطام الكبير لن يطول كثيراً. لكن الأجدى حتّى يستطيعَ النّاسُ قولَ كلمتهم الحقّ يبقى في اللجوءِ إلى المؤسّساتِ، والعمل مع أحرارِ ودستوريّي المجلسِ النيابي للوصولِ إلى الانتخاباتِ النيابيّةِ التي على ما يبدو، لنْ يقبلَ المجتمعُ الدّوليُّ أن تؤجّلَ ولو ثانيةً واحدة عن موعدِها. لكن حتّى الوصول إلى لحظة الحرّيّة هذه، مَن يُدرِكُ حجمَ الأثمانِ التي قد يُدَفِّعُها “حزبُ الله” للبنانَ بعد ليحقّقَ مشروعَهُ الكياني؟

Exit mobile version