الحرب وفقاعتها الاستهلاكية
فالجنوبيون تحولوا بعد الفقاعة الاستهلاكية، التي بدأت بعد حرب تموز 2006، إلى التجارة. وأصبح روتيناً أن تبنى المنازل فوق محال تجارية يستثمرها أصحابها مستقبلاً. وامتلأت قرى الجنوب ومدنه بالمطاعم ومحال بيع الملابس الجاهزة والهواتف الخليوية ومحلات “الوان دولار”. أما الحقول التي كانت تتلون في سنوات التسعينيات بمزروعات القمح والبطيخ والتبغ ومحاصيلها، فقد هجرها مزارعوها وتحولت إلى أرض بائرة، إن لم يلتهمها باطون العمران الفوضوي. صار الجميع يرغب في امتلاك مبان ومحلات تجارية وكراجات للسيارات تحت عمارته، حتى وصل سعر دونم الأرض المحاذي للشارع العام في قرية الشهابية مثلاً، إلى ما يقارب المليون دولار أميركي.
نجدة مغتربي إفريقيا
واليوم في خضم الأزمة، أصيبت زهراء (من الشهابية) بمشكلة في عينيها. وبعدما فحصها طبيب مختص، تبين أنها مهددة بالعمى، وتحتاج لعملية جراحية عاجلة كلفتها 5 آلاف دولار أميركي. وهو مبلغ لا تمتلك منه العائلة شيئاً. فوالد زهراء عاطل عن العمل، وتمتلك أمها دكاناً صغيراً في القرية. بينما تعمل زهراء ممرضة في إحدى مستشفيات الجنوب. ولدى انتشار الخبر في قريتها، أقدمت مجموعة من المغتربين في إفريقيا على جمع المبلغ اللازم للعملية الجراحية وأرسلته إلى العائلة.
لقد تمترس الجنوبيون خلف مغتربيهم، الذين راحوا ينظمون إرسال الأموال وتوزيعها على أقارب لا يملكون مغترباً يعيلهم. كما تأمل الجنوبيون خيراً بوعود حزب الله الذي أطلق العام الماضي الجهاد الزراعي وبنى استهلاكيات تحتوي مواد غذائية عراقية وإيرانية وسورية، ووعد بالصيدليات والنفط، لكن حسابات الحقل لم تكن كحسابات البيدر.
وقود للمغتربين والمقاومة
وامتلأت القرى الجنوبية بالقادمين من شتات المهاجر، وخلت الطرق من السيارات لتتجمع في طوابير طويلة أمام محطات الوقود.
ويقول أحد أصحاب المحطات في الجنوب إنه يرى الوجوه نفسها كل يوم: يركنون سياراتهم طوال الليل في انتظار تعبئة خزانتها بالوقود. ثم يذهبون إلى بيوتهم، فيفرغون بنزين خزانات سياراتهم في عبوات بلاستيكية، ويعودون ليقفوا في الطوابير لملئها مجدداً.
وسيطر المخزِّنون على الطوابير، وليس أمام من يحتاج إلى البنزين حقاً سوى اللجوء إلى السوق السوداء. وهذه سوق تلبي حاجات المغتربين الذين رفع استهلاكهم البنزين ثمن صفيحته (20 ليتراً) إلى عشرين دولاراً، يدفعها المغترب كاش. حتى أن البائعين في السوق السوداء باتوا لا يبيعون سوى للمغتربين حصراً.
وبالتوازي مع وجود مخزون استراتيجي من المحروقات للجيش اللبناني، وجد حزب الله نفسه في حاجة إلى مخزون استراتيجي أيضاً، فحجز الحزب إياه كميات من الوقود في بعض المحطات. وهو وقود يوازي السلاح. وكالسلاح، اليد التي تمتد إليه تقطع. ومع شح المحروقات، وفي انتظار نفط إيراني قد لا يصل أبداً، بدأت المولدات الكهربائية في الجنوب بتقنين الكهرباء أربع ساعات يومياً. فماذا ينفع الدولار الاغترابي أمام انقطاع الكهرباء والأدوية؟
موقد الخبز والطبخ.. والترفيه
في قرية دير نطار أعادت زينب بناء موقد الحطب لتحضير الطعام والخبز. فمع رفع الدعم جزئياً عن المحروقات وانقطاعها، تعذر عليها شراء الكمية نفسها من الغاز لتشغيل الفرن. وتقول: “أمس لم يكن في البيت طعام للعشاء، فقطعت بصلة وحبة بندورة والقليل من البرغل وأكلت. وفي الصباح تناولت الصعتر فطوراً. أنا لا مانع لدي، لكن الأولاد لا يتقبلون هذا الطعام”.
ويستعيد الآباء والأمهات الجنوبيون أساليب النجاة من الظروف البائسة. ففي سنوات السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات من القرن الماضي، عاشوا في ظروف صعبة، وما زالوا قادرين على استعادة نمط الحياة القديم.
وفي بداية الأزمة بثت قناة NBN التلفزيونية التابعة لحركة أمل برنامجاً تشرح فيه أسلوب الحياة ذاك: كيفية تخزين المأكولات من دون تبريد. واستضافت المحطة نساء ورجالاً من كبار السن، أولئك الذين خبروا الحياة في زمن الحرمان الجنوبي. لكن ما ينطبق على الكبار لا ينطبق على الجيل الجديد، وما يتطلبه نمط حياته من طبابة وتعليم وانترنت ووقود وترفيه أيضاً. ومن قال أن الرفاهية ليست من حقهم؟
بطاقة السجاد والمغترب
وحصلت فاطمة على بطاقة سجاد من حزب الله. واعتادت على زيارة تعاونيتهم في بلدة كونين، ترافقها ابنتها. وتشتريان منها حاجياتهما. كانت الأسعار أرخص من مثيلاتها في السوق. أما النوعية فلا بأس بها.
لكنها اليوم انقطعت عن زيارة التعاونية. تقول إن الرفوف فارغة تقريباً، والأصناف المعروضة رديئة. أما الأسعار فتعادل أسعار السوبرماركت. ولا زالت فاطمة توفر القليل لدى شرائها الزيت. لكن ذلك ليس سبباً كافياً لتجتاز مسافة طويلة من قريتها إلى كونين مع ارتفاع أسعار الوقود.
تتعمق الأزمة وتتشعب. ويكتشف الجنوبيون نقاط ضعفهم ونقاط قوتهم.
في جلساتهم المسائية يعيدون صوغ أفكارهم من جديد، كل يوم النقاش نفسه: الحياة ليست طعاماً وشراباً فقط. وليست محروقات ومغتربين. هناك نظام متكامل بات مفقوداً. باتوا يدركون جيداً أنهم لا يملكون شيئاً من مقومات الصمود التي ملأت أسماعهم طوال سنين. ليسوا هم المذنبون طبعاً، بل ولاة أمرهم.
يشعر الجنوبيون اليوم أنهم متروكون لمصيرهم. المغترب نقطة قوتهم الوحيدة التي يعتمدون عليها. أما غير ذلك فلا شيء قادر على دعمهم.