وسام متى
احتفل الحزب الشيوعي الصيني بالذكرى المئوية لتأسيسه في الأول من تموز/ يوليو. هو تاريخ رمزي للاقتصاد الثاني في العالم الذي يكافح من أجل القيادة العالمية. الاحتفالات الرسمية التي أقامتها الصين في مئوية الثورة، جاءت لتعبر عن تجديد الولاء للفكر الشيوعي الذي تحاول الدولة الصينية مواءمته مع متطلبات عصر العولمة، عبر تكريس شعار “الإنسانية ذات المصير المشترك” كبديل عن النظام الليبرالي الغربي. ومع ذلك، فإنّ النظام الشيوعي في الصين يبدو محيّراً لكثيرين، لا سيما في مزاوجته بين أفكار الماركسية وقواعد السوق الحر، على نحو يدفع إلى التساؤل حول ما بقي من أفكار “جيل المؤسسين”، وإلى أين تتجه البلاد في مع جيل “القيادة العالمية”.. والأهم مما سبق، هل أن الحزب الشيوعي الصيني لا يزال شيوعياً؟ جيل المؤسسين بين ولادته كحركة سرية وبين هيمنته الحالية على أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، تأرجح الحزب الشيوعي الصيني بين الانكسارات والانتصارات. يخالف المؤرخون في تحديدهم لتاريخ ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي الصيني ما استقر في الوجدان الثوري الصيني. الثابت تاريخياً، أن تأسيس الحزب الشيوعي الصيني كان يوم 23 تموز/يوليو، حين اجتمع أكثر من عشرة ممثلين من التنظيمات الماركسية في منزل من الطوب في منطقة الامتياز الفرنسي في شنغهاي لعقد المؤتمر التأسيسي. كان ماو تسي تونغ أحد المشاركين في المؤتمر التأسيسي، لكنه هو واثنين فقط من المشاركين في هذا الاجتماع التاريخي كانوا لا يزالون أعضاء في الحزب الشيوعي عندما وصل إلى الحكم في العام 1949، في حين قُتل الباقون أو طُردوا أو انكفأوا. حين بدأ الحزب في الاحتفال بالذكرى السنوية لتأسيسه في أواخر الثلاثينيات الماضية، وحده ماو تسي تونغ ورفيق آخر كانا يتذكران اليوم الذي انعقد فيه المؤتمر التأسيسي. في الواقع، كان ماو هو من اختار الأول من تموز/يوليو للاحتفال بالذكرى السنوية، وهو تقليد لم يشذ عنه الحزب الشيوعي على مدى عقود، بالرغم من ان المؤرخين تأكدوا لاحقاً من التاريخ الفعلي. خلال العشرينيات الماضية، تحالف الشيوعيون مع القوميين، في محاولة لتوحيد بلد منقسم إلى إقطاعيات يديرها أمراء الحرب، لكن هذا التحالف انتهى حين شرعت القوات الموالية للقوميين بقيادة تشيانغ كاي شيك بعمليات تطهير دموية للتنظيمات الشيوعية في العام 1927، فما كان من الحزب الشيوعي إلا أن أطلق تمردًا شاملاً في آب/أغسطس من ذلك العام، ألحقت على أثرها قوات تشيانغ هزائم ثقيلة بالجيش الأحمر الصيني، وقد بلغت ذروتها في ما تطلق عليه تسمية “المسيرة الطويلة” (1934-1935)، وهي عملية انسحاب قامت بها القوات الشيوعية على مدى آلاف الأميال، وقد جرى الاحتفال بها لاحقاً باعتبارها انتصاراً استراتيجياً! أبرمت القوات الشيوعية والقومية هدنة غير مستقرة في أواخر الثلاثينيات لمقاومة العدوان العسكري الياباني على الصين. لكن الحرب الأهلية اشتعلت من جديد بعد الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة وانهارت الحكومة القومية، التي كانت تترنح نتيجة للفساد والانهيار الاقتصادي، تحت الهجوم الشيوعي. سحب تشيانغ حكومته إلى تايوان، المستعمرة اليابانية السابقة، التي خضعت للسيطرة القومية في العام 1945، في حين أعلن ماو تسي تونغ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1949. في السنوات الأخيرة، قادت الصين ما يقرب من خمس نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة مساهمة الولايات المتحدة بهامش كبير من الثورة إلى التحديث عشية الذكرى المئوية للثورة، نشرت الدائرة التنظيمية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني أحدث البيانات حول تكوينها، وهي معطيات يجب أن تصبح بالنسبة إلى منظري الحزب حجة أخرى لصالح حقيقة أن الحزب قادر على الاستمرار في الحكم بشكل فعال. بحسب هذه البيانات، يضم الحزب الشيوعي الصيني حالياً 95 مليوناً و 148 ألف عضو في صفوفه، ما يجعله القوة السياسية الأكثر عددًا في العالم. لكن قوة الحزب الشيوعي الصيني لا تكمن في عدد أعضائه فحسب، بل في تحكمه بمفاصل ثاني اقتصاد في العالم، على النحو الذي يجعله في طليعة النضال من أجل المثل العليا للاشتراكية الصينية. يصنف تطوّر الصين على مدى العقود الأربعة الماضية على أنه أكبر وأطول ازدهار اقتصادي في التاريخ، فقد ارتفع ناتج الصين المحلي الإجمالي السنوي من 191 مليار دولار (195 دولاراً للفرد)، في العام 1980 إلى 14.3 تريليون دولار (10261 دولاراً للفرد)، في عام 2019. وقد نجح هذا النظام الاقتصادي في انتشال أكثر من 770 مليون شخص من الفقر وحوّل الاقتصاد الصيني إلى اقتصاد عالي التقنية. يعد هذا التحول إنجازاً تاريخياً للحزب الشيوعي الصيني، وإن كانت رمزية ذكرى التأسيس هنا لا تضاهي لحظة السبعينيات، التي كرّست البداية الفعلية للصين المعاصرة، من خلال الثورة الإصلاحية التي أطلقها دينغ شياو بينغ. لا يمكن فهم هذه الثورة الإصلاحية إلا في سياقها التاريخي. بعد انتصار الحزب الشيوعي على القوميين، أطلق ماو تسي تونغ عمليات تطهير جذرية وبرنامجاً صناعياً كارثياً أدى إلى واحدة من أكثر المجاعات ضراوة في التاريخ. عجّل موت ماو تسي تونغ عام 1976 في إحداث تغييرات سياسية واقتصادية في عهد دينغ شياو بينغ، أدت إلى تحويل دولة فقيرة إلى قوة اقتصادية عالمية. أعاد دينغ شياو بينغ توجيه الحزب من الثورة إلى التحديث، وأدخل إصلاحات لتنشيط الاقتصاد المخطط الذي مزقته سنوات من سوء الإدارة والاضطرابات السياسية. إقرأ على موقع 180 ما بعد المجازفة التركية في سوريا: هل سقط إتفاق أستانة؟ منذ أن بدأت الإصلاحات في أواخر السبعينيات، فتحت الدول الغربية أسواقها أمام الصادرات الصينية للمرة الأولى، وأبقتها مفتوحة إلى حد كبير، على الرغم من البرودة التدريجية في العلاقات السياسية. استثمرت الشركات متعددة الجنسيات مئات المليارات من الدولارات في الاقتصاد الصيني، وساعدت بشكل كبير في تحديثه. كان هذا التعايش حجر الزاوية للازدهار الذي ما زالت الصين تقطف ثماره، ففي السنوات الأخيرة، قادت الصين ما يقرب من خمس نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، متجاوزة مساهمة الولايات المتحدة بهامش كبير. في مئوية التأسيس، يركز شي جين بينغ على سردية استعادة الحزب كقوة في حياة الناس، بجانب استعادة نمطه الثوري. من أجل ذلك، يستدعى الزعيم الصيني الأفكار الماركسية وممارسات حقبة ماو أكثر من أي زعيم آخر ما بعد المئوية الأولى برغم الاندفاعة التي تشهدها الصين منذ سنوات، وانفتاحها على كافة أشكال التعاون الاقتصادي مع العالم الخارجي، إلا أن المستقبل يبقى محاطاً بالشكوك. لا يقتصر الأمر هنا على التوترات بين الصين والغربيين على خلفية “السجل الأسود” للقيادة الصينية في مجال الحريات العامة، والذي يثير تساؤلات مثيرة للقلق حول مسار علاقتها مع الغرب؛ بل يمتد إلى ديمومة الاستقرار للنظام الشيوعي. تكمن هذه المخاوف في التوجهات العامة للنظام الصيني في عهد شي جين بينغ، الذي يشغل في آنٍ معاً منصب رئيس الدولة ورئيس الحزب الشيوعي الصيني وجيش التحرير الشعبي. وبرصد سريع لملامح حكمه، عاكس شي جين بينغ العديد من الضوابط والتوازنات التي أرساها دينغ شياو بينغ، بعدما ألغى حدود الفترة الرئاسية، وجعل نفسه، للمرة الأولى منذ عهد ماو تسي تونغ، أول زعيم يحكم حتى وفاته. كما أنه يُظهر القليل من الاهتمام بمبدأ “القيادة الجماعية” الذي دافع عنه دينغ وخلفاؤه. بهذا المعنى، فإنّ مخاطر التخلي عن الإصلاحات السياسية التي تحققت في عهد دينغ شياو بينغ تذهب إلى أبعد من المخاوف الغربية بشأن حقوق الإنسان. يتمثل الخلل في حكم الحزب الشيوعي الصيني، لا سيما أن الاضطرابات والخسائر الفادحة في الأرواح خلال السنوات الثلاثين التي أعقبت ثورة العام 1948 أظهرت أن تركيز السلطة بيد رجل واحد يمكن أن يؤدي إلى صراعات شرسة على السلطة، خاصة في أوقات الخلافة السياسية، علاوة على أن عدم وجود نقاش في دوائر السياسة يؤدي إلى تفاقم الأخطاء وتعميقها. هذا ما يمكن استنباطه من الذكريات المؤلمة للثورة الثقافية (1966-1976) والقفزة العظيمة إلى الأمام (1958-1962)، اللتين انتجتا كارثتين في حقبة ماو تسي تونغ حين مات عشرات الملايين من الناس. في مئوية التأسيس، يركز شي جين بينغ على سردية استعادة الحزب كقوة في حياة الناس، بجانب استعادة نمطه الثوري. من أجل ذلك، يستدعى الزعيم الصيني الأفكار الماركسية وممارسات حقبة ماو أكثر من أي زعيم آخر. ومع ذلك، فإنّ كثراً يرون أن الهدف الفعلي من كل ذلك يتمثل في مجرد ترسيخ حكم الحزب الواحد بدلاً من إحياء العقيدة الأيديولوجية التي اجتمع عليها الجيل المؤسس.
بطاقة تعريف
من زهاء 50 عضواً عند تأسيسه، تضخم الحزب الشيوعي ليصبح واحداً من أكبر المنظمات السياسية في العالم، ويضم في صفوفه أكثر من 95 مليون شخص. عندما تأسست جمهورية الصين الشعبية كان الحزب يمثل أقل من 1٪ من السكان، وكان 69٪ من أعضائه أمّيين. اليوم، يشكل أعضاء الحزب 6.7٪ من سكان الصين البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، وقد تلقى 52٪ منهم تعليماً جامعياً. يهيمن الحزب الشيوعي على كل جهاز من أجهزة الدولة في الصين، بما في ذلك الحكومة والسلطة التشريعية والقضاء والقوات المسلحة، ويصل إلى كل ركن من أركان الحياة العامة تقريباً. تتحكم اللجان الحزبية رفيعة المستوى في صنع السياسات وتتفوق على الوزارات الحكومية. يعمل أعضاء الحزب بغالبية ساحقة في الوكالات الحكومية من بكين إلى المكاتب القروية، ويديرون الشركات المملوكة للدولة ويشرفون على الجماعات المدنية والدينية وغرف التجارة والنقابات. تتطلب لوائح الحزب من جميع المنظمات التي تضم ثلاثة أعضاء أو أكثر تشكيل خلايا حزبية. ويشترط القانون الصيني على الشركات المؤهلة إنشاء منظمات حزبية وتسهيل أنشطتها. في حين كان العمال والفلاحون يمثلون نحو ثلثي الحزب في العام 1978، تراجعت نسبة الأعضاء المصنفين كعمال ومزارعين ورعاة وصيادين إلى أقل من 34٪ في العام 2020. يوجد في الصين 5.8 مليون ثري من أصحاب الملايين، ويبلغ عدد الأشخاص الذين تفوق ثرواتهم 50 مليون دولار أكثر من 21 ألف مليونير. غياب التوازن بين الجنسين هو أحد المجالات التي لم يتغير فيها الحزب كثيراً. وعلى الرغم من إصرار الحزب على أن “المرأة تشغل نصف السماء”، فقد شكلت العضوات 11.9٪ فقط من الحزب في العام 1949، و28.8 في المئة بحلول العام 2020.