ما يبعث على العجب في المشهد اللبناني الى حد السخرية، ان تأليف الحكومة لا ينتظر احداً، ولا احد ينتظره. ولا اعجوبة حتماً. اما الافرقاء الآخرون المعنيون، فبعضهم ينتظر بعضاً: الرئيس ميشال عون ينتظر الرئيس المكلف سعد الحريري يحمل اليه تشكيلة جديدة ليست في حسبان شريكه في التوقيع، او ان يعتذر. الحريري ينتظر الرئيس نبيه برّي يأذن له بالاعتذار ما دام المأزق طويلاً، من دون ان يعثر على حلفاء آخرين له من حوله. النائب جبران باسيل ينتظر الاعتذار نفسه بلا خطة بديلة، كأن العهد في سنته الاولى لا ما قبل الاخيرة. حزب الله الاقل اهتماماً والاكثر استمتاعاً بالتفرّج، ينتظر ما لا ينتظره اولئك: ان يظلوا يراوحون اقدامهم في مكانها الى ان يحين الاوان.

بذلك يمضي الافرقاء جميعاً الوقت، مع دخول التكليف شهره التاسع، الى ان تقع الصدمة.
في واقع ما اضحى عليه، لا تأليف للحكومة في مدى قريب، ولا احد يفكر فيه حتى: قطيعة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، تبادل اقتراحات تتطاير من فوق الرؤوس لا تسمن ولا تغني ولا تفضي الى تأليف، الرئيس المكلف يملأ ضجره بالاسفار، باسيل بما يمثله ومَن يمثل بات المعادل الفعلي للحريري في ادارة التأليف من دونه لا توقيع للمرسوم.
يحدث ذلك كله، بموافقة يضمرها الافرقاء جميعاً دونما اخراج احد من ملعب المواجهة حتى الآن، مع الاصرار على ابقائهم داخله وفق احجامهم الحالية، فيما الثنائي الشيعي يدير باتقان وتقاسم دوري برّي وحزب الله لعبة التوازن بين عون والحريري. لا يغلّب احدهما على الآخر او يتنكّر له، ويُشعر كلاً منهما بحاجته الملحة اليه او الى اي من طرفي الثنائي. كأن هذا الثنائي يتلاعب بهما. ذلك ما يفعله حزب الله مع جنبلاط: يخوّفه مقدار ما يطمئنه برّي. وما يفعله ايضاً رئيس المجلس مع باسيل: يقلقه مقدار ما يريحه حزب الله.
اما مفتاح كل هذا الذي يجري، غير المعدّ للحسم والمفاضلة، فهو العلاقة الايجابية غير المسبوقة بين الثنائي الشيعي، وتحديداً حزب الله، وبين الرئيس المكلف. الملاحظة الاكثر بروزاً التي تعكسها هذه العلاقة، ان الشارع السنّي صار اليوم يطالب برأس باسيل لا برأس حزب الله، بعدما بات رئيس الجمهورية وصهره العدوين المعلنين له، يريد التخلص منهما بأي ثمن وفي اي وقت واياً تكن الوسيلة. في المقابل، كما لو انه يحيّده عن المواجهة التي يخوضها زعيمه – كأنه بمفرده مستهدفاً يخوض غمارها – لا يكتم الشارع «المستقبليّ» ارتياحه الى وقوف حزب الله الى جانب الحريري ودعمه له وحمايته.
ليست جديدة او مستغربة علاقة برّي بالحريري، كاستمرار طبيعي لعلاقة الاول بالرئيس الراحل رفيق الحريري في عقد التسعينات، وما رافقها من مد وجزر وخلافات ومصالحات وتطاحن نفوذ وهما معاً في الحكم، فيما لم تسرِ الكيمياء مرة بينه وبين الرئيس فؤاد السنيورة ما بين عامي 2005 و2008 وغلب عليها التصادم الحاد قبل الوصول الى 7 ايار.تكاد لا علاقة مستقرة تعوّل على التفهّم المتبادل وتفادي الاشتباك واهمال الكثير الذي يفرّق ما بينهما وتتجاهل الماضي الثقيل الذي يتنكّبانه، تقوم بين طرفين سياسيين كما بين الثنائي الشيعي والرئيس المكلف. لا نظير لها قبلاً ولا الآن حتماً بين الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع حليفيه القديمين السابقين. لم تعد كذلك، في الظاهر على الاقل، علاقة باسيل بحزب الله. لم يُكتب لعلاقة بمثلها يوماً بين حزب الله وجنبلاط، وبين باسيل وجنبلاط، وبين باسيل وجعجع ولم تعدُ هذه سوى جبل اكاذيب.
كلاهما، الثنائي الشيعي والرئيس المكلف، مطمئنان الى علاقتهما هذه المنعكسة على شارعيهما، على نحو هدّأ نعراتهما المذهبية وأبعدهما عن الصدام. في ظلها ثمة امان سنّي – شيعي غير مألوف، لا مثيل له في المحيط الاقليمي الذي لا يزال يتخبط فيه، كما بين السعودية وايران وفي العراق في النعرات المذهبية في سوريا.
ما رمت اليه علاقة الطرفين انها قدمت نموذجاً مناقضاً بكليته لتجربتي قوى 8 و14 آذار ما بين عامي 2005 و2009 يوم كان جنبلاط اول الخارجين منها، لحق به الحريري السنة الحالية بذهابهما تباعاً الى مصالحة الرئيس السوري بشار الاسد ونظامه. نشأ تجمّعا 8 و14 آذار لتنظيم الاشتباك السنّي – الشيعي المتفاقم بين عامي 2006 و2008، من غير الغاء الخلاف المرتبط وقتذاك بمسألتي سلاح حزب الله واغتيال الحريري الاب. بإزائهما لم يكن الحلفاء المسيحيون لدى المرجعيتين السنّية في قوى 14 آذار والشيعية في قوى 8 آذار سوى اكياس رمل، تمنع الاشتباك الذي وقع مع ذلك. اليوم باتت اكياس الرمل هذه غير ذات اهمية، يُستغنى عن بعضها كحال جعجع وحزب الكتائب مع الحريري، ويراعى خاطر بعضها الآخر كعون وباسيل عند حزب الله.
لم يعد احد في الشارع السنّي اللصيق بالحريري يتحدث عن سلاح الحزب، او يتذكر اتهامه له باغتياله الحريري الاب، او التفاته الى المحكمة الدولية ومواصلتها مهمتها ادانة الحزب. لا احد يسأله عن دوره في حرب سوريا ومؤازرة نظام الاسد، ولا كذلك عن تخويفه الآخرين بسلاحه وهو السبّاق الى فرض الثلث + 1 في الحكومات المتعاقبة منذ عام 2008. كان الرؤساء المكلفون يرون هذا النصاب اعتداء شيعياً على صلاحيات رئيس مجلس الوزراء السنّي، قبل ان يصبح الآن سلاحاً في يد عون مذ اصبح رئيساً للجمهورية.
لا احد في الثنائي الشيعي ايضاً يتكلم عن بديل من الحريري في السرايا، او يضعه في دائرة الاستهداف لاضعافه داخل طائفته، او اخراجه من المعادلة السياسية. لم يعد ثمة ما يقلق في الابن ما كان يقلق في الاب وهو حجماه الاقليمي والدولي، وثروته الطائلة بسخائه غير المتوقع بغية الوصول الى اهدافه. ليس اسعد على قلب الثنائي الشيعي ان يختبر رئيساً للحكومة ويتعامل معه ويصر عليه مقطوعاً من شجرة. لا ظهير عربياً له في حجم السعودية، تمتحنه كل يوم في مدى اخلاصه ووفائه لها عبر مواجهته حزب الله على نحو حقبة ما بين عامي 2005 و2009 عشية معادلة س. س. لم يعد الحريري الابن الآن، كما كان الاب قبلاً، موصولاً بدوائر القرار الغربي في اوروبا والولايات المتحدة وصولاً الى روسيا، قادراً على ان يؤثر على نحو ما في مقاربتها ما كان يجري في لبنان.
الصائب القول ان الثنائي الشيعي صار الحليف الوحيد للحريري في معركة وصوله الى السرايا، بالتشبث بتكليفه، وبمحاولة تقليل العراقيل في مسار التأليف وتفهّم شروطه وإن بلا جدوى فعلية حتى الآن. في ظاهر ما يحدث حصر الرئيس المكلف تواصله ببري على انه وحده ظهيره، الى حد ان يمنعه رئيس المجلس من ان يعتذر ويساعده على تأليف الحكومة – هو المصر على التمسك بصلاحياته الدستورية لا شريك له فيها. بات رئيس المجلس اليوم مَن يتولى عنه المواجهة مع رئيس الجمهورية كما حدث في الاسابيع الاخيرة، دونما ان يقطع برّي، رغم كل ما حصل ويحصل، خيط التواصل مع باسيل من خلال ثنائي المعاونين علي حسن خليل وحسين خليل.