د. امين محمود
اصدر اوليفانت عام 1880 كتابة “ارض جلعاد” الذي ضمنه آراءه وأفكاره بخصوص مسألة توطين اليهود في شرق الاردن شمال البحر الميت في المنطقة المسماة جلعاد في السلط.
شهدت بريطانيا خلال القرن التاسع عشر انطلاق حركة دينية نشطة تمثلت بالصحوة الانجيلية البيوريتانية “المتهودة”، والتي تعتبر من اشد اشكال البروتستانتية تطرفا، وقد اولتها الملكة فكتوريا خلال القرن التاسع عشر رعايتها المطلقة بحيث اصبحت تشكل العقيدة الرسمية لغالبية البريطانيين ، كما قامت الملكة البريطانية بتوظيف هذه الصحوة الدينية لأهداف تتضمن خدمة السياسات التوسعية الاستعمارية لبلدها وذلك من خلال دعم وترويج الاسطورة الدينية التي يقال ان التوراة قد تنبأت بها ، والتي تدور حول مجيء المسيح من جديد في نهاية الزمان ليحكم العالم ايذانا ببدء الألفية السعيدة حسبما جاء في سفر دانيال ( العهد القديم ) ورؤيا يوحنا (العهد الجديد ) ، وبموجب هذه الأسطورة فان لليهود دورا مركزيا في الخطة الالهية لنهاية العالم التي تتضمن ضرورة عودة اليهود الى ارض الميعاد ، الارض المقدسة ، و ” اعادة ” بناء هيكلهم المزعوم مكان الصخرة المشرفة وذلك تمهيدا لقدوم المسيح . وهكذا بعد ان كانت انجلترا لا تسمح بوجود قانوني لليهود حاءت الملكة فكتوريا وادعت ان الرب قد اختارها لأداء مهمة مقدسة في بعث اليهود وقيادتهم الى أرض الميعاد وقد وصف الميشر البريطاني ، اللورد شافتسبوري أرض الميعاد التي تشمل فلسطين وما جاورها من الاراضي العربية المأهولة بالسكان بانها أراض قاحلة جرداء تكاد تخلو من قاطنيها البشر ، وأطلق جملته التي تبنتها ورددتها السرديات الصهيونية المتلاحقة: “ارض بلا شعب لشعب بلا ارض ” ، وادعى هذا المبشر البريطاني أن اليهود هم الشعب الذي وهبه الرب حق استيطان تلك الارض ، حيث أنه يشكل حجر الزاوية في الخطة الالهية لتحقيق الحلم المسيحي في الخلاص الأبدي . وقد اطلق على مروجي هذه المعتقد الديني من الانجيليين البيوريتانيين في بريطانيا “المسيحيون المتهودون ” او ” الصهاينة المسيحيون ” ، وهم سبقوا بظهورهم ظهور الصهيونية اليهودية التي يعود تاريخها فقط الى مؤتمر بال عام 1897 . ,وهكذا فاننا نجد ان أي تفسير منطقي للانحياز البريطاني او الغربي عموما بما فيه الامريكي للصهيونية واسرائيل يتجاوز التفسير المتداول لدينا بانه يكمن بقوة اليهود الذين يحكمون الدول الغربية بمجملها . ان هذا الانحياز هو انحياز اساسه – كما يقول رضا هلال – اساس لاهوتي وثقافي وليس مجرد انحياز استراتيجي أو مجرد انحياز بتأثير اللوبي اليهودي ( رضا هلال ، المسيح ونهاية العالم ، ص 13 ) ، ففي امريكا على سبيل المثال يشكل الانجيليون ما نسبته 25%- 30% من مجموع السكان في حين لا يشكل اليهود سوى 2،5% من مجموع السكان ، كما نجد حجم الدعم لاسرائيل في ولايات الوسط الغربي لامريكا غاية في القوة رغم ان نسبة اليهود فيها ضئيلة جدا .
واذا ما عدنا الى الحركة الاتجيلية في بريطانيا فاننا نجد واحدا من أبرز الشخصيات الانجيلية البريطانية التي تعاطفت مع مشاريع الاستيطان اليهودي وهو لورانس اوليفانت 1839-1888 الذي نشأ وتربى في أسرة اسكتلندية عريقة لابوين انجيليين غيورين على عقيدتهم الدينية لدرجة التطرف ، وتركت فيه هذه التنشئة أُثرا كبيرا جعلته شديد الايمان بالاسطورة الدينية التي كانت تروج لها الحركة الانجيلية وخاصة فيما يتعلق بضرورة رحيل اليهود الى ارض الميعاد تمهيدا لتحقيق حلمها الديني بالعودة الثانية للمسيح والتي اصبحت مشروعا سياسيا تتبناه بريطانيا بهدف تحويل هذه الاسطورة الدينية الى واقع عملي لكيان يهودي سياسي . .
وقد تمكن اوليفانت خلال عمله في السلك الدبلوماسي البريطاني وعضويته في البرلمان البريطاني من اقامة علاقات حميمية مع دوائر النفوذ السياسي في بريطانيا الامر الذي ساعده على استغلال هذه العلاقات لكسب دعم وتأييد دول التحالف الاوروبي المجتمعة في مؤتمر برلين عام 1878 وذلك لمشروعه الرامي الى اقامة مستعمرات يهودية في فلسطين واذا تعذر ذلك ففي اي منطقة أخرى من المناطق الواقعة جنوب سوريا والخالية من السكان – على حد تعبيره – وذلك بحجة ايواء المهجرين اليهود من روسيا واوروبا الشرقية شريطة ان يتم ذلك بشكل تدريجي تحت الحماية البريطانية ، ثم يمنح اليهود في النهاية حكما ذاتيا تحت حماية بريطانيا العظمى . ( Norman Bentwitch , Forerunners of Zionism Era , p. 210 )وقد قامت بريطانيا باتباع شتى الطرق الدبلوماسية واستخدمت جميع وسائل الضغط المتوفرة لديها من أجل اقناع السلطان العثماني بالموافقة على مشروع اوليفانت الاستيطاني على أن تقتصر اقامته في البداية على جزء من أرض الميعاد التي عرفت باسم ارض جلعاد .
وجلعاد اسم كان يطلق قديما على الكتلة الجبلية الممتدة من نهر اليرموك شمالا الى نهر الزرقاء جنوبا والى شفا الغور غربا وخط سكة حديد الحجاز شرقا ، وهي حاليا تقع ضمن محافظتي عجلون والبلقاء . اما يالنسبة لارض الميعاد في المعتقد الانجيلي فهي الارض المقدسة التي وهبها الرب لليهود دون غيرهم بصفتهم ” شعب الله المختار ” ، والواقعة بين نهري النيل والفرات شاملة الجزء الشرقي من مصر اضافة الى شبه جزيرة سيناء وشمال غرب الجزيرة العربية بما فيها نافذة على الخليج اضافة الى فلسطين والاردن والاجزاء الجنوبية من العراق وسوربا بما فيها لبنان .
وقد حاول اوليفانت من جانبه كسب دعم وتأييد العثمانيين لمشروعه الاستيطاني ، فتظاهر بالاهتمام المتزايد والحرص الشديد على سيادة الدولة العثمانية ومناديا بضرورة العمل على انقاذها من مشاكلها المستعصية كي يتسنى لها القدرة على التصدي لتهديدات عدوتها التقليدية ، روسيا القيصرية . وقد لجأ اوليفانت الى تحذير دول التحالف الاوروبي من مغبة الاطماع الروسية في الأجزاء الاّسيوية من الدولة العثمانية ، مدعيا ان أطماعها تصاعدت لاحتلال ارمينيا وكردستان وقد تصل هذه الأطماع ي النهاية الى فلسطين التي كانت تشكل بمركزها الديني والاستراتيجي مصدر اغراء كبير بالنسبة للمطامع التوسعية الروسية بحجة حماية المسيحيين الارثوذوكس في الاراضي المقدسة اعتمادا على الحق الذي انتزعته روسيا بهذا الشأن من العثمانيين في عهد كاترين الثانية بمقتضى معاهدة كجق قينارجة عام 1774 . ومن اجل انقاذ الدولة العثمانية من هذه الاخطار الروسية المحدقة بها اقترح اوليفانت على السلطان العثماني منح اليهود عقد امتياز لمدة لا تقل عن خمسة وعشرين عاما يتم بموجبه اقامة كيان سياسي يهودي في منطقة جلعاد على شكل حكم ذاتي تحت السيادة العثمانية مقابل قيام المنظمات اليهودية بتدعيم أوضاع الدولة العثمانية المتداعية كي تتمكن من مواحهة التهديدات والتحديات التي تعترضها سواء ما كان منها على الصعيد المالي او الصعيد السياسي ، اضافة الى قيام هذه المنظمات باستغلال علاقاتها الوثيقة مع الدول الغربية وخاصة بريطانيا لتوفير الحماية لها بعد ان أصبحت اضافة الى الاطماع الروسية محط أطماع العديد من الدول والقوى العالمية الأخرى.
وقد نجح اوليفانت في مقابلة السلطان عبد الحميد حيث حاول اقناعه بانشاء شركة استيطان يهودية ” لاعادة اليهود الى فلسطين ” بحيث تتمتع هذه الشركة بحماية كل من الدولة العثمانية والحكومة البريطانية . وكان مما قاله في هذا الصدد : ” … ان الامة التي تقف الى جانب اليهود وتدعم مسألة عودتهم الى فلسطين ستكسب دعمهم في المجالات المالية ، وتأييدهم على الصعيد الاعلامي في مختلف بلدان العالم . وبالاضافة الى ذلك فان اليهود سيقدمون لهذه الأمة كل دعم ممكن في الجانب السياسي ويعاضدونها ضد اية دولة معادية ” . الا ان مهمته قوبلت بالرفض من السلطان عبد الحميد ولم يستجب لطلبه .
وقد اصدر اوليفانت عام 1880 كتابه” ارض جلعاد ” الذي ضمنه اّراءه وأفكاره بخصوص مسألة توطين اليهود في شرق الاردن شمال البحر الميت في المنطقة المسماة جلعاد اضافة بالطبع الى فلسطين ، كما ضمنه أيضا اّراءه حول نوعية العلاقات التي سيقيمها هؤلاء المستوطنون مع كل من العثمانيين والعرب . ولعله من المناسب التوقف هنا للتعرض للموقف الذي كان يتبناه اوليفانت والعديد من مجموعته الانجيلية تجاه العرب . فالعرب في نظرهم يتصفون” بالهمجية والوحشية” و “غير جديرين باي معاملة انسانية فهم يتحملون مسؤولية الخراب والدمار الذي لحق بفلسطين وهم السبب في تدني مستواها وانحطاطه الى هذا الحد “، وقد كان العرب في نظر اوليفانت فئتين : بدو وفلاحين ، ودعا الى طرد البدو من فلسطين والاردن “ليعودوا رعاة كما كانوا في الواحات الصحراوية وهم ليسوا بحاجة الى اكثر من ابلهم ومواشيهم لتسد اودهم ” . اما بالنسبة للفلاحين فقد اقترح وضعهم في جيتوات كتلك التي عاشها غالبية اليهود في اوروبا الشرقية او في معسكرات كتلك التي اقامها المستوطنون الغربيون للهنود الحمر ، سكان البلاد الأصليين ، ويتم استخدامهم واستعبادهم كما كان عليه حال الأفارقة السود في امريكا او كعمالة رخيصة تحت اشراف اليهود .
وقد انتهى مشروع اوليفانت بوفاته في حيفا عام 1888 بعد ان استقر فيها بنهاية المطاف وعاش فيها برفقة مساعده نافتالي مؤلف النشيد الذي اتخذته اسرائيل فيما بعد نشيدا وطنيا لها .
يتضح مما تقدم ان صهيونية اوليفانت ومجموعته الانجيلية كانت واضحة وسباقة لصهيونية هرتزل نفسه، ولا شك أنهم قاموا بدور كبير في اثارة اهتمام العالم الغربي وتعاطفه بالمسالة اليهودية وتوجيه انظار اليهود وتعزيوها صوب احتلال الارض التي اسموها ” ارض الميعاد ” والتي ايتدأت باحتلال فلسطين ولا يزال المسعى قائما لاحتلال المزيد من الاراضي العربية لاستكمال مكونات ارض ميعادهم .