نداء الوطن
بمزيد من الأسى والحسرة، ينعى اللبنانيون عيشهم الكريم ويسيرون فرادى وجماعات في “طوابير” تشييع يومية للكرامة الوطنية على طول خط الانهيار المتمدد في مختلف الاتجاهات الحياتية، بينما السلطة تكتفي بتقبّل التعازي ومزاحمة مواطنيها في الندب والعويل على الأطلال، من دون الإقدام على أي خطوة أو خطة لفرملة عجلات الانهيار في البلاد.
فمفهوم الدولة تحوّل إلى مجرد “شاهد زور” على واقع تحلّل الكيان في “محلول” تحالف “المافيا والميليشيا” الذي أحكم قبضته على مقدّرات اللبنانيين وأخرج لهم منها عصارة “خليط” قاتل من البؤس والفقر والعوز ليتجرّعوها على مدار الساعة في مختلف جوانب يومياتهم، من دون أن تكلّف السلطة نفسها عناء إيجاد الترياق اللازم للأزمة، وحوّلت الجمهورية إلى “عصفورية” تسودها ذهنيات حاكمة انفصمت عن الواقع وغلبت عليها أعراض “جنون العظمة والأنا أو لا أحد”.
وتحت سقف هذا التشخيص، قاربت مصادر معارضة مشهدية الأمس في المجلس النيابي حيث “طغى على قوى الأكثرية وحكومتها أداء فاضح من انعدام حسّ المسؤولية تجاه ما يكابده المواطنون من مصائب وانهيارات متتالية في مجمل القطاعات الحيوية في البلد”، مستغربةً “الاستمرار في الأداء الرسمي على قاعدة “Business as usual” والإمعان في الهروب إلى الأمام عبر قوانين شعبوية لا طائل منها سوى مزيد من استنزاف الخزينة وودائع الناس بعيداً عن أي فعل إصلاحي حقيقي يتيح استنهاض الدولة وملاقاة شروط المجتمع الدولي للمساهمة في مد حبل الإنقاذ لانتشال اللبنانيين من قعر الانهيار”.
وإذ رأت المصادر أنّ إقرار مشروع البطاقة التمويلية ليس سوى مجرد “خديعة أخرى للتوغل أكثر في الصرف من الاحتياطي الإلزامي”، سألت: “كيف يمكن لدولة مفلسة عاجزة عن إمداد المستشفيات بالمازوت والمحطات والمولدات بالوقود أن تمدّ يد العون للمواطنين وتدعي تمويل احتياجاتهم؟”، محذرةً من أنّ “سياسة الصرف من جيوب الناس تحت شعار دعمهم لن تؤدي سوى إلى مزيد من تأجيج فتائل الانهيار والخراب وصولاً إلى لحظة انفجار فوضى اجتماعية لن يكون الوضع الأمني بمنأى عن شظاياها كما تبيّن أمس من أحداث طرابس وغيرها”.
وكانت بوادر التفلت الأمني قد لاحت أمس من شوارع التبانة والقبة مع ظهور احتجاجات مسلحة على تردي الوضع المعيشي، وكادت الأمور أن تتحوّل إلى اشتباكات بين المتظاهرين وعناصر الجيش لولا أن تداركت قيادة المؤسسة العسكرية الأوضاع وتعاملت معها بحكمة وحزم منعاً لتدهور الأمور ميدانياً. وسجل ليلاً سقوط 12 جريحاً بالعصي والسكاكين لخلاف على البنزين في بلدة دير الزهراني الجنوبية.
وفي المقابل، لا يزال الصراع محتدماً على الحلبة الحكومية حيث استبعدت مصادر مطلعة عودة الرئيس المكلف إلى بيروت في الساعات المقبلة لا سيما وأنه وفق المعلومات يستعد للقيام بجولة عربية يستهلها من القاهرة، في حين استكمل رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل هجمته المضادة على تكليف الحريري مطالباً إياه بحسم أمره بين “التأليف والاعتذار”، وإلا فإنّ باسيل رأى أنّ على المجلس النيابي “أن يحسم أمره، إمّا بتعديل دستوري لوضع المهل (للتأليف) أو إستعادة القرار (بالتكليف)، أو تقصير مدّة ولايته”.
وعلى إيقاع تفاقم الغليان الشعبي في بيروت والمناطق، برزت انتفاضة نيابية قواتية أمس، مع انسحاب أعضاء تكتل “الجمهورية القوية” من الجلسة التشريعية في الأونيسكو رفضاً لتعامي أركان السلطة عن الواقع المتردي في البلاد. إذ وبعدما رفض رئيس المجلس النيابي نبيه بري طلب رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب جورج عدوان تحديد موعد لجلسة مناقشة عامة الأسبوع المقبل، خرج عدوان مع زملائه في التكتل من الجلسة مندداً بـ”المنظومة الحاكمة التي فيها رئيس حكومة مستقيل لا يبذل أي جهد للتخفيف عن الناس ورئيس حكومة مكلف مسافر ولا يعود إلى البلد للاجتماع يومياً مع رئيس الجمهورية حتى الاتفاق على تشكيل الحكومة”.
أما على المستوى الدولي، فاسترعى الانتباه إعلان وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية كليمان بون خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ أنّ بلاده والولايات المتحدة تفكران في كل الخيارات ضد مسؤولين سياسيين لبنانيين بما يشمل فرض “عقوبات” من أجل حل الأزمة التي تشل البلد، قائلاً: “الموقف الأميركي هو نفسه (كالموقف الفرنسي) بابقاء الضغط الأقصى وعدم استبعاد أي خيار بما يشمل فرض عقوبات إضافية”. وأضاف: “الفكرة هي وضع نظام عقوبات، للإشارة الى أننا مستعدون للقيام بذلك ضد الأطراف السياسية الفاعلة التي تبقى مسؤولة عن العرقلة”.