} د.وفيق إبراهيم-البناء
تشتدّ الاضطرابات الاجتماعيّة في لبنان فتعنف تارة وتخبو أخرى من دون أسباب واضحة، فالسبب الواضح هو ضرورة التساؤل عن عمقها والدواعي الدافعة إليها. ولماذا ترتدي هذا الشكل المتقطع والصغير الذي يندفع الى الشوارع وينسحب منها من دون مبررات ساطعة.
لدينا هنا في لبنان الحالي ثلاث قوى مشاركة في الاضطرابات: السلطة السياسية بما هي مستهدفة من الطبقة الشعبية التي تتهمها بالفساد وتدعوها للرحيل إنما بحركات ضغط وعنف ليست متواصلة، بل شديدة التقطع مع عبارات عنف ضئيلة. الفئة الثانية هي اللبنانيّون وهؤلاء منقسمون مناطقياً وطائفياً، فكل مذهب يتحرك وحدَه وعند قدوم الليل يفك خيمه موقفاً تحركاته الى مناسبة أخرى، ما يجعل من هذه الحركات الضاغطة مجرد آليات وقتية لرفع العتب كما يُقال، فهل شهدت الشوارع تظاهرات تضم لبنانيين من الشيعة والدروز والسنة، وهل استقبلت لبنانيين مسيحيين ومسلمين؟ هذا لم يحدث واحتفظت هذه التظاهرات بمذهبياتها وسيطرة زعماء الطوائف عليها فينزل الناس بتحريض من جماعات الزعماء وينسحبون بناء على طلباتهم.
لذلك ليس هناك تجمّع واحد صغير متعدّد اللون الطائفي يتباهى بالنطق باسم لبنان الكبير بكامله، هذا بالإضافة الى ان المسيحيين ممسكون من ثلاث قوى هم جماعات عون وجعجع، إلا أن مجموعات تابعة للرهبنة المارونيّة يحرّكها الكاردينال الراعي ساعة يرى أن هذه التحركات تتلاءم مع مصالح المسيحيين ودور الكنيسة في قيادة السياسة.
لجهة الشيعة فيسيطر على حركتهم قسمان، حركة أمل التي تمنعهم من النزول الى الشارع والتظاهر إلا حين تتلاءم مع مصالحها وحاجات قيادتها، كما أن حزب الله معارض كبير للتظاهرات ويمنع جمهوره عنها بشكل كامل لانه يعطي الصراع مع «إسرائيل» الأولوية على كل ما يتسبب بنزاعات داخلية تؤدي الى ولادة إشكالات بين الطوائف والمذاهب او قد تدفع نحو إضعاف الدولة في هذا الوقت بالذات الذي يجب أن تبقى هذه الدولة على شيء من القوة.
لكن هناك فرق شيعيّة صغيرة العدد والأحجام تشارك في التظاهرات وتقودها وقتاً ثم تسارع إلى حلها بعد توقيت معين، وهكذا دواليك، وبما أن السنة يتحكم بها شعور بالغبن الحكومي والسياسي فتراهم في مدنهم الكبرى بيروت وطرابلس وصيدا والبقاع الغربي يحاولون الدفع باتجاه تظاهرات دائمة وكبيرة، فلا يجدون الهيئات المنظمة وأموال الدعم فيشاركون فيها وينكفئون ساعة مغيب الشمس.
وسيلة التظاهرات فاشلة إذاً لأسباب تتعلق بتركيبتها وإداراتها التي لا تريد استعمالها إلا ضمن هذا الإطار.
هذا هو الذي ينتج فوضى دائمة ومتقطعة. ففي كل يوم هناك تظاهرات محدودة الحجم تنتهي عند هبوط الليل وصولاً الى الأيام التالية، فيتكرر المشهد من دون أية زيادة او نقصان.
لذلك فإن هذه التظاهرات ينطبق عليها أنها تخيف ولا تخيف، تثير الرعب لجهة أن تكبر وتمتد ولا تخيف لأن الدولة مطمئنة بأن الممسكين بالتظاهرات يريدونها على هذا النحو.
العنصر الثالث الموجود في الساحة اللبنانيّة هم الفرنسيّون والأميركيون الممسكون بالنظام السياسي ولا يقبلون بأي دور لجهات خارجية، هذا باستثناء إيران وسورية وحزب الله الذين انتزعوا ادوارهم بقوة البنادق وليس بلعبة أداء الدور.
هنا ينبثق سؤال أساسي: لماذا يسكت الفرنسيون والأميركيون عن مسلسل انهيار لبنان المحسوب عليهم؟
إنهم يعرفون أن الوضع الأمني مقبول عند هذه الحدود ولا يريدون إعادة نصب الدولة السياسية في لبنان، لأن هذا يفرض مشاركة حزب الله والأحزاب الموالية لإيران وسورية في السلطة السياسية.
هنا يرى الأميركيون والفرنسيون ان تدهور النظام السياسي اللبناني واستنزاف طاقة الانتفاضات يؤديان الى ولادة نظام سياسي لبناني يتحرك ضمن السلة الأميركية والفرنسية ويحتاج اليها للتمويل.
هذا ما يدفع الأميركيين الى تمرير استثمار الغاز اللبناني في الجنوب مع فلسطين المحتلة والشمال مع سورية وفي عمق البحر الأبيض المتوسط مع قبرص وتؤكد المعلومات بهذا الصدد أن احتياطات لبنان البحرية والأرضية في البقاع من مادة الغاز كبيرة بشكل تسمح بربطه بالخط الإسرائيلي – المصري – الأردني – القبرصي – اليوناني – الأوروبي، وهو خط غاز يريد منه الأميركيون منافسة الغاز الروسي المهيمن على أوروبا.
فهل هذا ممكن؟
يحتاج اللبنانيون الى وجود احتياطات فعلية، لكن المعارضات الداخلية التي يقودها حزب الله لن تسمح للفريق اللبناني الأميركي باستعمال الغاز كوظيفة أميركية. وهذا يؤكد ان النزاعات اللبنانية الداخلية ترتسم في الأفق.