ناصر قنديل-البناء
– يحتاج النضال الوطني الفلسطيني بعد نصف قرن من ظهور شعار النضال لإقامة دولة على الأراضي المحتلة عام 67 الى مراجعة لصدقية الشعار وملاءمته للضرورات الوطنية، ولو تحت عنوان المرحليّة، خصوصاً بعد النتائج الكارثية لاتفاق أوسلو الذي تم تسويقه تحت هذا الشعار، وأهمية النقاش حول الأولويات أنها تقرر مصير الموقف من الانتخابات التشريعية وتشكيل حكومات فلسطينية في ظل الاحتلال، ومثلها الموقف من انتخابات الكنيست في الأراضي المحتلة عام 48، فكلها تداعيات ناتجة عن شعار دولة على أراضي العام 67، الذي بقي مظلة لمشروع ينكمش تحت تأثير التنازلات سعياً وراء الدولة، بينما الجغرافيا الفلسطينية تتآكل مع توحّش مشروع الاستيطان، ويتكفل مشروع التهويد برفع مخاطر العدوانيّة وتوحّش المستوطنين سواء في القدس أو في الأراضي المحتلة عام 48.
– وفقاً للأولويات التاريخية التي يفرضها مشروع التحرر الوطني يحتلّ حق العودة للاجئين الفلسطينيين المرتبة الأولى في أي خطة مرحلية، من الزاوية القانونية، سواء لكونه حقاً فردياً غير قابل للتفويض والتفاوض والتفريط، أو لكونه نقطة الانطلاق في الحق المحوري المعروف باسم حق تقرير المصير، بما فيه كفرع من أصل حق بناء دولة مستقلة أو سواه من الحقوق، واجتزاء هذا الحق الفرعيّ بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، وجعل حق العودة وحق تقرير المصير مشروطين بأولوية إقامة الدولة هو عمليّة خداع تاريخيّة مبرمجة لتضييع النضال الوطني الفلسطيني، عدا عن كونه تصرفاً بالوكالة نيابة عن الفلسطينيين لا يمكن لأحد زعم امتلاكها خصوصاً بما يخصّ حق العودة.
– الذريعة التي يقدّمها دعاة أولوية الدولة الفلسطينية هي الحاجة لوضع هدف مرحلي، تحت شعار أن هدف تحرير فلسطين كاملة لن يلقى قبولاً دولياً، وبالتالي لا بد لمخاطبة هذا المجتمع الدولي من وضع هدف مرحليّ مقبول، يستند الى القرارات الدولية، ونقول إن هذه ذريعة وليست سبباً، لأن المرحليّة تعني وضع مرحلة أولى وليس مرحلة أخيرة، فترتيب إقامة الدولة يأتي أخيراً بعد حق العودة وحق تقرير المصير، ومعلوم أنه أيضاً بتسلسل القرارات الدولية فإن القرارات التي تناولت انسحاب الاحتلال من الأراضي المحتلة عام 67 هي لاحقة بترتيب صدورها على قرار تثبيت حق العودة، كما أنها تضع مهمة التفاوض لتحقيق الانسحاب على عاتق الدول التي كانت راعية لتلك الأراضي الفلسطينية أي مصر والأردن، وجاء شعار إقامة الدولة الفلسطينية عليها تسهيلاً لتنصّل تلك الدول من مسؤوليتها عن إعادة غزة والضفة والقدس الشرقيّة من كنف الاحتلال، وعندها يصبح مطروحاً مبرر البحث بتولي شعبها إدارتها وتقرير مصيره فيها.
– ترتب على أولويّة شعار إقامة الدولة تمزيق وحدة الشعب الفلسطيني، فصار الشتات مهملاً باعتباره شأناً لاحقاً لقيام الدولة ومجرد فرضية قابلة للبحث بعدها، وصار فلسطينيو الداخل المحتل عام 48 مجرد «عرب إسرائيل»، لا مكان لهم في الدولة الموعودة، وعليهم ترتيب أوضاعهم كمواطنين في كيان الاحتلال، يشتركون في مؤسسات الكيان ويشكل الفوز بمقعد إضافيّ في برلمان الكيان في ظل قوانينه العنصرية، إنجازاً وطنياً، ومثلما تحول الشعب الفلسطيني بفعل شعار الدولة إلى مجموعة أكياس لحم تستعمل تضحياتها ويهمش مصيرها، تحوّلت الجغرافيا الفلسطينية الى مجموعة عقارات، فالقدس قابلة للفك والتركيب، والضفة موضوع تبادل أراضٍ، فسقط الوطن الفلسطيني بصفته قضية.
– أعادت معركة سيف القدس ردّ الاعتبار لمحركين رئيسيين في القضية الفلسطينية، الأول هو دور فلسطينيي الـ48 الذين أسقطهم مشروع الدولة من الأجندة الفلسطينية ولا جواب يمكن أن يقدّمه لهم شعار إقامة الدولة، والثاني هو الشتات الذي لعب دوراً حاسماً في استنهاض الشوارع الغربيّة، حيث ينتشر ملايين الفلسطينيين الذين همّشهم شعار الدولة، فيما طرحت تداعيات استشهاد المناضل نزار بنات أسئلة جوهريّة حول دور السلطة ووظيفتها في النضال الوطني الفلسطيني، والتبعات الخطيرة المترتبة على التنسيق الأمنيّ مع كيان الاحتلال، بينما ظهرت تفاهة الحديث عن تشكيلات سلطويّة حكوميّة وبرلمانيّة في ظل الاحتلال، كانت حتى الأمس قضايا رئيسيّة على جدول أعمال الفصائل الفلسطينية وحواراتها.
– تحتاج القيادات الفلسطينية الجادة والملتزمة بقضيّة شعبها إلى قراءة هادئة للقرار 194 الصادر عام 1948 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يتضمّن ثلاثة نصوص هامة، الأول الدعوة لوضع القدس تحت مراقبة دوليّة، والثاني نزع السلاح في القدس، والثالث ضمان حق العودة للاجئين، ويمكن للقرار 194 أن يشكل بالنسبة للشعب الفلسطيني إطاراً قانونياً دولياً لنضال مرحلي، أعلى مرتبة من العنوان المضلل الذي مثله شعار إقامة الدولة، بينما يصلح مثال غزة للقول إن الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، ومعلوم أن شبراً واحداً من فلسطين لن تأتي به المفاوضات بل انتصارات المقاومة، يجب أن تشكل قاعدة دعم وإسناد للنضال الوطني في سائر مناطق فلسطين، كما قالت معركة سيف القدس.