ترجمة وإعداد هشام عليوان – أساس ميديا
اكتشاف مقابر مجهولة لمئات الأطفال من السكان الأصليين أحدث هزّة سياسية وأخلاقية كبرى في كندا، وفتح الأبواب الموصدة لصفحات سوداء من التاريخ الاستعماري الأوروبي، وقصص مروّعة عن مصائر أطفال أُبعدوا عن منازلهم، وتعرّضوا للأذى، وماتوا أو قُتلوا أو فُقدوا من دون أن يعلم أحد مآلهم أو مكانهم، ودفع السكان الأصليين إلى التشدّد في مطلب المحاسبة عن هذه الحقبة الوحشية.
فمنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى تسعينيات القرن العشرين، أي ما يقارب القرن، دأبت الحكومة الكندية على ممارسة سياسة منهجية تقضي بانتزاع أطفال من السكان الأصليين من أُسرهم ووضعهم قسراً في مدارس داخلية مصمّمة لقطعهم عن ثقافتهم المحلية ودمجهم بالثقافة الغربية، وهو النظام الذي أطلقت عليه اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة، في عام 2008، اسم “الإبادة الثقافية”. ونتج عن هذه السياسة انتزاع ما لا يقلّ عن 150 ألف طفل من منازلهم، وإرسالهم إلى المدارس، التي تديرها الكنيسة الكاثوليكية في معظمها، حيث كان الاستغلال الجنسي والبدني والعاطفي وممارسة العنف ضدّ الأطفال أمراً شائعاً.
وعمّا كان يجري داخل تلك المدارس، يقول كين توماس (Ken Thomas) إنّه وُضِع في سيارة فان عندما كان في السادسة في عمره، وأُنزل على أعتاب مدرسة موسكويكوان (Muskowekwan) الداخلية الهندية. حلقت الراهبات شعره، وسرعان ما علم أنّه كلّما تحدّث بلغته الأصلية، سيغسلون فمه بالصابون. وخلال السنوات العشر التي مرّ بها هناك، عانى الأهوال المدمّرة. وفي إحدى الحالات، انتحر صديق له بعد تجريده من ملابسه وحبسه في غرفة النوم بعد محاولته الفرار. لاحقاً، عثر توماس والأولاد الآخرون على صديقهم معلّقاً جثة هامدة في الحمام.
ومثل كثير من الطلاب الآخرين، يقول توماس إنّه رأى عظاماً بشرية، عقب اكتشافها من قبل مقاولين يمدّون خط مياه في أرض المدرسة. وكان بعض الطلاب قد فُقدوا، وسمع شائعات تفيد أنّهم ماتوا ودُفِنوا هناك.
وقدّرت لجنة المصالحة أنّ حوالى 4100 طفل اختفوا من تلك المدارس في جميع أنحاء البلاد. إلا أنّ قاضياً سابقاً من السكان الأصليين كان رئيساً للجنة، هو موراي سنكلير (Murray Sinclair)، قال في رسالة إلكترونية هذا الشهر إنّه يعتقد الآن أنّ العدد “يتجاوز عشرة آلاف”.
الآن يتعلّم الكنديون المزيد عن هذا التاريخ المزعج. وفي الأسابيع الأربعة الماضية، قالت مجموعتان من السكان الأصليين إنّهما اكتشفتا مئات القبور المجهولة للأطفال الذين ربّما ماتوا في المدارس الداخلية بسبب المرض أو الإهمال، أو حتى قُتلوا. وفي السنوات الأخيرة، ضغطت مجتمعات السكان الأصليين من أجل استخدام تكنولوجيات رادارية متطوّرة تخترق الأرض للبحث عن قبور الأطفال المفقودين.
وفى يوم الجمعة الماضي، قالت المتحدّثة باسم “أمّة كويسس الأولى” (واحدة من القبائل الأصلية) فى ساسكاتشوان (Cowessess First Nation in Saskatchewan) إنّها عثرت على رفات ما يصل إلى 751 شخصاً، معظمهم من الأطفال على الأرجح، في مدرسة ماريفال (Marieval) الهندية الداخلية على بعد حوالى 87 ميلاً من ريجينا (Regina) عاصمة المقاطعة. وفي أيار، قالت المتحدّثة باسم “أمّة تيكميلوبس تي سيكويبمك” (Tk’emlups te Secwepemc First Nation) في كولومبيا البريطانية إنّها اكتشفت رفات 215 شخصاً، معظمهم من الأطفال على الأرجح، في مدرسة كاملوبس Kamloops الهندية الداخلية.
وكانت مدرسة موسكويكوان، التي أُجبر توماس على الذهاب إليها، أوّل المواقع التي جرت فيها عمليات البحث عن الرفات. وفي عام 2018، توجّه طلاب من أربع جامعات إلى المدرسة لبدء البحث عن قبور لا تحمل علامات. وعلى مدى أربعة أيام، رصدوا جزءاً صغيراً من تلك الأرض، التي كانت تُخصّص لزراعة البطاطا، باستعمال رادار يخترق الأرض، وهي تكنولوجيا أصبحت أكثر حساسية في السنوات الأخيرة.
واستُبدلت مدرسة كاملوبس الهندية السكنية، على بعد حوالى 900 ميل إلى الغرب من موسكويكوان، بمدرسة جديدة للسكان الأصليين في مكان قريب. وفي أراضي المدرسة القديمة، يتواصل البحث عن رفات المزيد من الأطفال المفقودين.
ومن المتوقّع أن يؤدّي التصميم المتجدّد من جانب زعماء السكان الأصليين، مثل سينثيا ديجارلايس (Cynthia Desjarlais)، عضو مجلس “أمّة موسكويكوان”، التي تقود الجهود الرامية إلى تحديد مكان رفات الأطفال، والاستخدام الموسّع لتكنولوجيات المسح الضوئي، إلى مزيد من الاكتشافات لمقابر لا تحمل علامات. وفي يوم الثلاثاء الماضي، تجمّع عدد من الطلاب السابقين، المعروفين عموماً في مجتمعات السكان الأصليين بأنّهم ناجون، بالقرب من مدرسة موسكويكوان، مرتدين قمصانهم التقليدية المشذّبة بشرائط زاهية الألوان. وذلك لسماع الوزير الاتحادي لعلاقات السكان الأصليين يعلن عبر تطبيق “زوم” أنّ الحكومة ستقدّم أقلّ بقليل من خمسة ملايين دولار كندي لدفع تكاليف عمليات البحث.
ولتحديد هوية الرفات، وتحديد كيفية وفاة الأشخاص وزمانها، سيتعيّن على المجتمعات الأصلية استخراجه، وهو قرار رفضته “أمّة موسكويكوان” في عام 2018. وقالت متحدثة باسم “أمّة كاملوبس” إنّه لن يُتّخذ أيّ قرار بشأن هذه الخطوة أو أيّ خطوات تالية أخرى حتى ينتهي البحث.
ويُطرح سؤال آخر عمّا يجب القيام به بشأن المنشآت نفسها. فعندما فُكّك نظام المدارس الداخلية، مع إغلاق آخر مؤسسة في عام 1996، أنشأت مجتمعات السكان الأصليين المحلية مدارس أخرى كي تحلّ محلّها. وأبقت أمّة موسكويكوان الأولى المبنى القديم كرمز للظلم، ولكنّ جميع الأمم الأولى الأخرى في ساسكاتشوان أزالت تلك المدارس كي تنقطع عن الماضي.
وتهدف السيدة ديجارلايس إلى وضع علامة على المدافن بعد اكتمال الجولة التالية من المسح الضوئي. وتبحث عن المال لتحويل أنقاض المدرسة إلى متحف وأرشيف، بالإضافة إلى مركز لتعليم الكبار. لكنّ رؤيتها ليست مشتركة بين الجميع. وقال بعض الطلاب السابقين إنّهم يتجنّبون المرور إلى جانب المدرسة لمجرّد أنّها تحتوي على الكثير من الذكريات السيّئة بالنسبة إليهم.
أمّا توماس فهو من بين أولئك الذين يريدون “أن يكون نوع من النُّصْب بدلاً من ذلك، بحيث لا يرون هذا المبنى الكبير حيث وقع الكثير من المصاعب والانتهاكات”.