تحقيقات - ملفات

داعية الثورات وعدوها في آن واحد

عمر قدور|المدن

في الشهر السابع عام2013 كتب سعدي يوسف في جريدة الأخبار اللبنانية: كأن تحرير الزنوج كان خطأً تاريخياً… كأن والت ويتمان لم يكتب “أوراق العشب”. وإلا كيف يتقدم زنجيان أسيادَهم البيضَ في قتل غير البيض (نحن العرب مثلاً)؟ كولن بأول، الكاذب الأكبر، الزنجي المحرَّر، كان وراء استباحة العراق في 2003. باراك أوباما، المتشدّق الأكبر، الزنجي المحرَّر مع امرأته ميشيل (حمالة الحطب) يريد أن يستبيح سوريا، ويسبي نساءها، ويجعل أعزّةَ أهلها أذلّةً، كما فعل سلفه الأسود كولن بأول في العراق. اللعنة! العمى! لا أريد أن أستعيد المتنبي. أريد أن أقول إن الانتقال من العبودية إلى الحرية ليس سهلاً. ميونيخ 09/07/2013.

وفي نيسان2018 غرّد الناشط الفلسطيني نزار بنات على صفحته: “قريباً سيبدأ الشوفيرية بتلميع الباصات الخضراء، وجنود سوريا الأبطال يشحمون أسلحتهم، بينما سيصل عواؤكم للسماء على هاشتاغ إدلب تحترق.. خلي أمريكا تنفعكم”. وغرّد في منتصف أيار2018: “إلى مفتي كرخانة السعودية… لا تبحث عن هلال رمضان، فعين الشام واليمن لا تخطئه، ابحثْ عن نجمة داود لعلك تجدها في فرج امرأتك”. وفي أيلول من العام نفسه: “أنا لست مع مقاطعة أي حفل لفنان عربي يقيم حفلات في الكيان الصهيوني وفي الضفة، أنا مع استدراجه وقتله”. وفي شباط من العام الحالي إثر اغتيال لقمان سليم: “سمعت بمقتل لقمان سليم والضجة الكبيرة. ولكوني لم أسمع بالرجل قبل ذلك تصفحت موقعه. الرجل يكتب تفاهات سطحية بأسلوب فج، ولكن تشاء رغبةُ خليجِ الاستخراء أن يجعلوا منه مفكراً”.

لا بد بدايةً من الاعتذار عن الإسفاف الأخلاقي الوارد أعلاه، والاعتذار من كل مَن قد يتأذى شخصياً من إعادة نشره، الأمر الذي تقتضيه طبيعة نقاش يتوخى عدم تكرار تلك الأقوال، وعدم استسهال الإساءة إلى فئات ومجموعات بشرية، أو إلى قيم إنسانية، في مناخ مواتٍ من الإباحة والاستباحة.

فضلاً عن القرابة التي تكشفها الاقتباسات السابقة، يجمع بين الشاعر سعدي يوسف ونزار بنات رحيلُ الاثنين على التوالي في هذا الشهر، والتعريفُ بهما “لمناسبة رحيلهما” كثوريَيْن ومتمردَيْن. ثم سيجمع بينهما جدلٌ متشابه، أعقب وفاة سعدي ومقتل نزار، وفي هذا الجدل برز السوريون كطرف متأذٍ من مواقف الراحلَين، وتالياً كطرف مقابل لآخرين يشيدون بمناقبهما ويتسامحون مع “زلاتهما” عند الاضطرار إلى الإقرار بها.

دخول السوريين كطرف أضرّ بالنقاش، رغم أنه فتحه على جوانب ينبغي عدم تغييبها، إذ صار سهلاً على كثر إقفاله على اتهامهم بأنهم يرون العالم من المنظور الضيق المحدود لمأساتهم. وفي إطار للتفكير يستسهل الثنائيات أكثر من التعدد، سيُوصم السوريون على اختلافاتهم كأصحاب تفكير أحادي وموحد مقابل آخرين يفكرون برحابة وبتسامح، آخرين ينظرون إلى العالم بنضج يبدو بعيد المنال عن مراهقي القضية السورية!

تلك الثنائية، على سبيل المثال فحسب، تولت قمع أصوات احتجت على التضخيم من مكانة سعدي يوسف الشعرية، وهذا رأي نقدي يجادل من موقع مغاير المتحمسين لسعدي وغير المستعدين سوى للاستهانة بأي نقد برميه في سلة التسييس المذموم. هكذا تصبح مكانة سعدي العالية من وجهة نظر البعض بديهية غير قابلة للنقاش لأن سوريين انقضوا عليه بسبب مواقفه السياسية وخلطوا بين الشعر والسياسة، ولا يجد هذا البعض نفسه مضطراً للتدليل على شاعرية سعدي التي لم نلحظ لها أثراً لدى المتلقي يضاهي الأثر المعروف لتجارب شعراء مثل محمود درويش ونزار قباني ومظفر النواب “خارج شتائمه” ومحمد الماغوط وعباس بيضون وأمجد ناصر وأدونيس… والقائمة تطول لشعراء من مختلف الأجيال.

الطامة الكبرى هي في إبداء التسامح مع مواقف الثائر و”الشيوعي الأخير” من منطلق أنها زلات، حيث في الخلفية مقولة “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره”، وهي مقولة تقتصر أصلاً على اللغة ولا تعطي الشعراء شيك إباحة على بياض. وفي هذا السياق تُستحضر “زلات” سياسية لكتّاب كبار عالميين، للاستقواء بها، وكأن الخطأ الأجنبي يبرر الخطايا العربية، مضافاً إلى ذلك عدم مراعاة الزمن من حيث ما يُنسب إلى كتّاب أو فنانين غربيين قبل قرن أو قرنين مثلاً.

بزعم التسامح، يُعطى لفئة ما امتياز الإساءة إلى الغير، واعتبار الإساءة “رغم تكرارها” زلة مقبولة يخفف من تبعاتها الحقوقية والقانونية، ومن ثم خروجها من دائرة “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره” إلى الدوائر الأوسع كطرح مقبول وغير مشين أخلاقياً. لا يحدث إلا في بلاد الاستباحة والإباحة أن تنشر جريدةٌ تلك العنصرية المقيتة تجاه السود التي كتبها سعدي يوسف، فهذا كفيل في بلاد أخرى بتقديم الجريدة والكاتب إلى المحاكمة، ولو رُفعت بسببها دعوى ضد سعدي يوسف في مكان إقامته الأوروبي لرأيناه على الأرجح محكوماً بما يستحق. ولو لم تكن القوانين الأوروبية قاصرة لما نجا، في حال رفع دعوى ضده، مما كتبه متشفياً بمأساة لاجئين سوريين مشردين في الصحراء الجزائرية.

ثمة قناعة عامة بأن سلطة رام الله قتلت الناشط نزار بنات أثناء اعتقاله، وهو بلا شك حدث ينبغي ألا يمر بلا إدانة وبلا محاسبة المسؤولين عنه، كي لا يستمر مسلسل استباحة حيوات المعارضين الدارج في عموم المنطقة. لكن النقاش الذي تلا مقتله سرعان ما صار ضحية الثنائية ذاتها، الثنائية التي يُستسهل تعليقها على سوريين أظهروا انعدام حساسية تجاه مقتله على غرار ما فعله هو يوم مقتل لقمان سليم! الثنائية التي تشي بمحدودية العقل، وتعمل على تكريس المحدودية، تأبى إلا أن تتجاهل ما كتبه الناشط المقتول، وما كتبه لمناسبة مقتل لقمان سليم يُشرْعِنُ مقتله اللاحق.

في المدلول العميق، كان نزار بنات خادماً لقاتله لا نقيضاً له، وهذا سبب لنكون ضد قاتله فلا يكون الأخير وأمثاله قتلتنا لاحقاً. إلا أن هذا سبب كافٍ كي لا نصنع من الضحية بطلاً، وألا يمنع موته محاكمة أفكاره كمنحاز لبشار الأسد ومشجِّع على إبادة السوريين، بل كداعية بكل وضوح إلى قتل مدنيين كما قرأنا في تحريضه على استدراج وقتل فنانين عرب أقاموا حفلات في إسرائيل وفي الضفة. ولن يكون مستغرباً مع مخزون العنف الذي عبّر عنه خروج ذلك العنف اللفظي الجنسي، والتعرض إلى زوجة من يراه خصماً على نحو تُعتبر فيه البذاءة لفظاً مخفَّفاً.

يجمع بين سعدي يوسف ونزار بنات أن كلاً منهما داعية ثورة وعدو الثورات في آن واحد، لكن من الخطأ الشنيع وضع موقف كلّ منهما من الثورات في خانة حرية الرأي. فحرية الرأي تنتهي عندما يصبح هذا الرأي إبادياً، أي عندما يشجع صاحبه على قتل مجموعة بشرية لاختلافه معها، وتنتهي حرية الرأي عند إبداء العنصرية تجاه أي عرق أو دين أو مذهب، لأن العنصرية إباديّة أيضاً فيما تنتهي إليه.

إن الحس الأخلاقي السليم ليتحاشى حتى استخدام كلمة “العمى!” التي وردت في سياق عنصرية سعدي يوسف، لأن هذه الكلمة تحيل إلى موروث من التحقير المتعلق بأمراض أو إصابات يستحق أصحابها التعاطف والمساعدة لا النظر إليها كلعنة تُستخدم في الدعاء على شخص آخر. ولا مغالاة في أننا مطالبون، في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي، بمراعاة أصحاب الاحتياجات الخاصة، وفي اللغة من إمكانيات الهجاء والشتيمة ما يُغني عن استخدام أسوئها وأضعفها. كي لا نكون مثل دعاة الثورات وأعدائها في آن واحد، يجدر بنا التوقف عند كل ذلك وغيره، ومغادرته كي لا نكون وقوداً في بلاد الإباحة والاستباحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى