بكر صدقي|المدن
ثمة شيء غير منطقي…
لا يتسق شعار “عودة أميركا” مع انحدار سقف ما تطلبه واشنطن من موسكو، في الموضوع السوري، إلى مستوى “المعابر الإنسانية”. صحيح أن سوريا هي “خارج أولويات الإدارة الأميركية” كما شاع القول ككليشة أو بديهة لا تحتاج إلى إثبات، ولكن، بالمقابل، ما هكذا تخاض “الحرب الباردة الجديدة” التي كثرت مؤشراتها في الأشهر المنصرمة من ولاية بايدن.
من الكليشيهات الأخرى التي درجت في الإعلام، منذ عهد باراك أوباما، أن الولايات المتحدة تسعى إلى الانسحاب من الشرق الأوسط والتخفف من أعبائه، للتوجه نحو آسيا والمحيط الهادي، أي لمحاصرة القطب العالمي الجديد المتمثل في الصين. حدث انقطاع عن هذه الاستراتيجية الأميركية في عهد دونالد ترامب الذي كانت محاصرة إيران أولوية في سياسته الخارجية، وإن كان ذلك على الطريقة الترامبية، كاغتيال قاسم سليماني في بغداد على سبيل المثال. واليوم يعود هذا التوجه الأميركي بقوة، وكانت جولة بايدن الأوروبية نوعاً من تجميع الحلفاء قبل البدء بـ”الحرب الباردة الجديدة” ضد الصين.
إنها تعريفاً حرب “باردة” أي لا تتضمن اشتعال حروب مباشرة بين قطبيها، لكنها أيضاً لا تقتصر على أدوات غير حربية كالاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا والثقافة وغيرها من الأسلحة “الناعمة”. فإذا اتخذنا الحرب الباردة القديمة مرجعية لفهم نظيرتها الجديدة، سنرى أنها تضمنت حروباً كبيرة في مختلف أنحاء العالم بين دول مدعومة من القطبين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وأحياناً بانخراط مباشر من أحد القطبين، كالحروب الفيتنامية والكمبودية والأفغانية والعربية – الإسرائيلية على سبيل المثال، إضافة إلى حروب الاستخبارات السرية والثورات والانقلابات العسكرية.
كانت تلك الحرب أشبه ما تكون بلعبة شطرنج، يحرك فيها الأميركيون والسوفييت قطعهم، سعياً وراء استتباع حكومات وكسب مناطق نفوذ في مختلف أنحاء العالم. ولم تكن أي من القوتين العظميين “تتعفف” عن السيطرة على دولة هنا ومنطقة هناك بدعوى أنها “خارج الأولويات”. فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بمنطقة نفوذ تقليدية للولايات المتحدة كالشرق الأوسط، على الأقل إسرائيل ودول المنظومة الخليجية. أما سوريا فهي منطقة نفوذ تقليدية لروسيا التي ورثتها عن فرنسا، وفقاً لمعايير الحرب الباردة القديمة، ولا يستبعد أن يكون استبعادها من الأولويات الأميركية، منذ بداية الثورة السورية في 2011، نوعاً من التسليم بمعطيات الحرب الباردة القديمة، أي الإقرار بـ”أحقية” روسيا في سوريا. هذا الافتراض، إن صح، يفسر أيضاً الموافقة الأميركية – الأوروبية الضمنية للتدخل العسكري الروسي في سوريا، في 30 أيلول 2015، على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وقد تبع هذا التطور صدور قرار مجلس الأمن 2254، بعد شهرين، ذلك القرار الذي كان، من زاوية النظر التي نناقشها هنا، بمثابة رسم حدود لتفويض روسيا بالمشكلة السورية.
كانت النتيجة، كما نعلم، هي استفادة روسيا القصوى من التفويض، ووضع قرار مجلس الأمن في الثلاجة على غرار القرارات المماثلة الصادرة بحق إسرائيل. أي خسارة مطلقة للتحالف الغربي أمام روسيا، بمعايير لعبة الأمم. احتفظت الولايات المتحدة من هذه الصفقة الخاسرة لنفسها بالسيطرة العسكرية على شمال شرق سوريا، فامتلكت بذلك القدرة على تعطيل “الحل السياسي” الروسي، من غير امتلاك بدائل إيجابية للضغط على روسيا بشأن الحل السياسي في سوريا. وإذ بدا الأميركيون على عجلة من أمرهم لسحب قواتهم من تلك المنطقة، بعد فرضية القضاء على دولة داعش، ولم يتركوا في الميدان إلا أقل من ألف جندي قد يتم سحبهم أيضاً في أي يوم، فقدوا حتى القدرة على التعطيل، فأجرى الروس الانتخابات الرئاسية لبشار الأسد على رغم الرفض الغربي الرخو الذي لم يستند إلى أي بدائل سياسية، ولا استطاع فرض أي إجراءات عقابية.
الحرب الباردة الجديدة التي يجري الحديث عنها تستهدف الصين بالدرجة الأولى باعتبارها القوة العظمى التي تهدد التفوق الأميركي في الاقتصاد والتكنولوجيا، وتعمل بدأب على توسيع مناطق نفوذها على حساب القوة الأميركية التي تبدو، والحال هذه، في حالة دفاعية. لكن روسيا هي صاحبة الأنياب النووية التي بدون تحييدها لا يمكن لمحاصرة الصين أن تكون ناجعة. هذا ما يبدو أن إدارة بايدن تسعى إليه. ولكن كيف يمكن تحييد روسيا ما لم يتم الحفاظ على نوع من توازن القوى معها على رقعة الشطرنج العالمية، في الوقت الذي تعزز فيه موسكو وجودها العسكري في سوريا باطراد، وتضع تركيا – حليفة واشنطن – بين خياري الالتحاق باستراتيجيتها أو الانقلاب على التفاهمات الهشة معها؟
وكيف تكون محاصرة الصين ممكنة، في الوقت الذي تمد فيه الصين نفوذها إلى إيران وإفريقيا، ويترك التمدد الإيراني في الجوار العربي بلا ضبط بذريعة العودة إلى الاتفاق النووي؟
بهذا المعنى نرى أن الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط قد أدى إلى ملء هذا الفراغ من قبل روسيا والصين وإيران، في حين تبدو أوروبا “العجوز” مكتفية بذاتها وليست راغبة في خوض مغامرات جديدة تحت شعار الحرب الباردة الجديدة. هل جرى تغيير حقيقي في هذا النزوع الأوروبي بعد “عودة” أمريكا بزخم قوي في سلسلة القمم التي التأمت هذا الشهر، السبعة الكبار والأطلسي والاتحاد الأوروبي؟
موضوع التمديد لآلية الأمم المتحدة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى شمال سوريا عبر الحدود الذي من المفترض أن يصوت عليه مجلس الأمن بعد أسبوعين، سيكون اختباراً أولياً لمدى قوة الحلف الغربي في مواجهة المحور الروسي – الصيني. ولكن بصرف النظر عن نتيجة التصويت، وهل ستسمح روسيا والصين بتمرير قرار إيجابي من خلال الامتناع عن استخدام حق النقض أم لا، تبدو واشنطن وحلفاؤها في موقف ضعيف جداً حين يكونون بجاجة إلى موافقة المحور المذكور في موضوع إنساني بحجم معبر باب الهوى. ترى ماذا يمكن لهذا الحلف أن يفعل إذا تعلق الأمر بالنزاع حول حقول النفط والغاز المكتشفة في شرقي البحر المتوسط، في الوقت الذي باتت فيه موسكو تملك قوة ردع كبيرة على الشاطئ السوري؟
في الحرب الباردة مع الصين قد تنفع الأدوات الناعمة، لكن موسكو التي لا تفوق امبريالياً لديها إلا في السلاح، ويقودها رجل كبوتين، لا ينفع معها إلا التلويح بالقوة الفظة.