روب دوبي (الولايات المتحدة)
الأخبار- طارق عبود
قوة الإرغام، مواجهة الأعداء من دون حرب
يعالج مركز «راند» هذه النظرية عبر دراسة مفصّلة أصدرها في عام 2016، فيشير إلى أنّ من بين أكثر الخيارات المتاحة هو «القدرة على الإرغام» وهي المتوفرة للولايات المتحدة، إضافة إلى أهمية العقوبات المالية، ودعم المعارضة السياسية اللاعنفية لأنظمة الحكم المعادية، والعمليات الإلكترونية.
ويوصي التقرير بأن تشحذ الولايات المتحدة قدرتها على مراقبة الأصول المالية وتدفّقها، وعلى عزل الدول العصيّة، والمصارف التي تقوم بأعمال تجارية مع هذه الدول.
ويجب أن تصقل وزارة الخارجية الأميركية والمجموعة الاستخباراتية الوسائل التي تستخدمها لدعم الخصوم المعارضين، المؤيدين للديمقراطية، والذين ينتهجون اللاعنف في الدول المعادية والقمعية. تضيف الدراسة: وعلى حكومة الولايات المتحدة أن تحضر لاستخدام قدرة الإرغام بنفس القوة التي تحضر فيها لشنّ الحرب العسكرية، ويشمل ذلك تحليل الخيارات، وتقييم المتطلبات والقدرات، والتخطيط مع الحلفاء بنفس الطريقة التي تتحدّد فيها السلطات والمسؤوليات والتسلسل القيادي أثناء استخدام القوة الصلبة، بوجوب أن تكون كذلك أثناء استخدام القدرة على الإرغام.
استعنتُ بمركز «راند» التابع لوزارة الدفاع الأميركية للقول إنّ من السذاجة تصديق أنّ الأميركيين يشاهدون لبنان ينهار اليوم فوق رؤوس أبنائه، وهناك أكثرية نيابية محسوبة على حزب أسهم في إفشال مشروعَين كبيرين للأميركيين في عام 2003 وفي عام 2011، ورئيس للجمهورية لا يأتمرون بأوامره، وحكومة مستقيلة أتت رغماً عنه، وسيتركون المشهد من دون تدخل، ولا استثمار من أجل إخضاع الخصوم، في وقت تزدحم الفنادق بالمفاوضين على الطاولات الثلاث في فيينا ومسقط وبغداد؟
الانتخابات النيابية ومواجهة حزب الله
ولقراءة العقل الأميركي أيضاً نعرّج سريعاً على المؤتمر الذي عقده معهد الشرق الأوسط مؤخراً، ونشره مركز دراسات غرب آسيا في بيروت، وفيه يراهن الأميركيون والمؤتمرون ومنهم شخصيات وازنة في السياسة الخارجية الأميركية، كالسفير ديفيد هيل، وحشد من الشخصيات منها: عضو الكونغرس الديمقراطي تيم كاين، وبيار دوكان السفير الفرنسي المكلف بتنسيق الدعم الدولي للبنان، والمسؤول عن «مؤتمر سيدر»، ودارين لحود عضو الكونغرس عن ولاية إلينوي، وبول سالم رئيس معهد الشرق الأوسط، والجنرال ديوك بيراك وهو عميد يشغل منصب نائب مدير الاستراتيجيا والخطط والسياسة في القيادة المركزية الأميركية، ودانا سترول مساعدة وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأميركية، وجون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن (CSIS)، ومهى يحيى مديرة مركز مالكولم كارنيجي للشرق الأوسط، وكريس أبي ناصيف مدير برنامج لبنان في المعهد، وناصر سعيدي الوزير ونائب حاكم مصرف لبنان السابق، رئيس العلاقات الخارجية في سلطة مركز دبي المالي العالمي، وغيرهم. تداعت هذه المجموعة على مدى أسبوعين، عبر تسع ندوات متتالية لتقديم رؤيتها للوضع في لبنان إلى الكونغرس الجديد، وبالتالي إلى إدارة جو بايدن.
في إحدى جلسات المؤتمر حضرت أفكار فيها ما هو مشترك مع ما ورد في استراتيجية إدارة بايدن الجديدة 2021، ويشير بعض المجتمعين إلى أنّ التغيير السياسي في خارطة المجلس النيابي الذي تدعمه واشنطن، هو أولوية، ويتأتّى عبر خسارة كتلة التيار الوطني الحر من حجمها، وبالتالي خسارة حليفها، أي حزب الله، الأغلبية في المجلس، مع توزيع الأرباح المحتمَلة على المجتمع المدني والقوى المسيحية المنافسة،(القوات والكتائب) ويحدد القضايا الأكثر إلحاحاً لضرورة المتابعة في لبنان بنقطتين إحداهما مواجهة حزب الله. وسياسة العقوبات في وجهه غير كافية لوحدها، ولا بدّ من استخدام «كل الأدوات في صندوق العدّة» لملاحقته. فما هي هذه الأدوات؟ وهل ستهمل الولايات المتحدة فرصة الاستفادة من الواقع الاقتصادي والمعيشي الكارثي الذي يعيشه لبنان اليوم، والذي كان للإدارة الأميركية الدور الحاسم والمؤثّر في الوصول إليه، عبر الحصار المالي مرةً، وعبر حماية المفسدين في الدولة وفي الإدارة مرةً، وعبر منع وكلائها في المنطقة من تقديم الدعم والمساعدات للبنان مرة أخرى، إضافة إلى محاربة حكومة الرئيس حسان دياب، ومحاصرتها من داخلها وعبر الخارج، وصولاً إلى تشكيل طوق حماية حول بعض الشخصيات التي تمارس دوراً رئيساً في دفع البلد نحو الهاوية، كحاكم مصرف لبنان، ومنع الحكومة من التوجه شرقاً للتخفيف من حدّة الأزمة. ولا ننسى أنّ الأميركيين لديهم من «المونة» ما يكفي عبر العصا أو الجزرة، كما عبّر ديفيد هيل، على الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة لكي يختلق الأعذار لعدم التشكيل، وبالتالي تحميل الرئيس ميشال عون وحزب الله مسؤولية التعطيل والانهيار، وهذا ما نشاهده من خلال وسائل الإعلام المدعومة أميركياً، والشخصيات التي تدور في الفلك السياسي الأميركي، والمواقع الإلكترونية التي تولد كالفطر والمدعومة من الأميركيين.ولأنّ الأميركيين جرّبوا وسائل كثيرة في العقدَين الأخيرين على الساحة اللبنانية، ولم تكن نتائجها مقنعة بالنسبة إليهم؛ فمن السذاجة بمكان أن يبرّئهم أحدٌ من الاستثمار في الانهيار بهدف تجميع النقاط وتسييلها في صناديق الاقتراع ضد التيار الوطني الحر في الوقت المناسب، وهي فرصة لن تتكرر، لأنهم يعتقدون أنّ الساحة المسيحية رخوة انتخابياً، ويستطيعون من خلال مجموعات المجتمع المدني، المزدهرة تجارته هذه الأيام، أن يقلبوا المعادلة في المجلس النيابي، وهم لديهم الكثير من الحلفاء المعلنين والمستورين، ومن المتطوعين في الطبقة السياسية (حتى لو أنهم فشلوا في كثير من المحطّات) فهم على استعداد لأن يكونوا في خدمة مشروعهم عند الحاجة. لذا يسعى الأميركيون لاسترجاع الأكثرية النيابية المفقودة التي ستشكّل حكومة شبيهة بحكومة فؤاد السنيورة في عام 2005، وستأتي برئيس الجمهورية القادم (تعويم قائد الجيش ليس صدفةً) بعد شيطنة الرئيس ميشال عون. والأهم هو ترهيب كل القوى المسيحية التي ستفكّر يوماً في التحالف مع المقاومة، بأنّ مصيرها سيكون كمصير الرئيس عون.
لذا، يدرك الواقعيون أنّ كل ما يحصل اليوم ليس مردّه فقط عجز الدولة المستجد عن إدارة نفسها، وهي العاجزة منذ عقود عن تأمين البنى التحتية البديهية. لذلك تطفو الأسئلة المشروعة اليوم عن سبب المعارضة الشرسة لوكلاء أميركا في الداخل اللبناني لطلب أيّ مساعدة، أو استثمار أو تعاون مع الصين أو روسيا أو إيران، (تنمّر سمير جعجع والنائب ياسين جابر على اقتراح استيراد البنزين والمازوت من إيران، ودعوة أنور الخليل إلى تدويل الأزمة ليس لحظة تخلٍّ) وهو ما كان ليوفّر مليارات الدولارات على الخزينة. ألم يكن ذلك بهدف الضغط نحو الوصول إلى الانفجار الاجتماعي في وجه الأكثرية الحالية التي تعمل الماكينة الإعلامية الأميركية على تحميلها مع عهد الرئيس عون كل تبعات العقود الثلاثة الماضية، وتغضّ النّظر عن كل الارتكابات التي حصلت خلالها، فيصبح الرئيس عون فاسداً، وفؤاد السنيورة طاهراً وإصلاحياً وباني الدولة الوطنية الحديثة. هذا التزوير يحاول المأجورون تحويله إلى حقيقة بقوة الشيوع والتكرار.
17 تشرين وصفرة البداية
فلنعُد خطوة إلى الوراء، لأنّ ذاكرة اللبنانيين مثقوبة. يخرج وزير الاتصالات محمد شقير ليبلغ قراراً بزيادة حكومة الرئيس سعد الحريري ست سنتات على فاتورة الخلوي. في الليلة نفسها تتهافت القوى الشعبية ومنظمات المجتمع المدني وبعض أحزاب السلطة إلى الأرض. تتفرغ وسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية لتغطية الحدث الكبير، فتولد ثورة 17 تشرين 2019 المجيدة! يستقيل الرئيس سعد الحريري تحت ضغط الشارع، ويدخل البلد في المجهول. هذا المشهد كلّه وكان الدولار وقتها لا يتعدّى الألف وسبعمئة ليرة. تقفل المصارف أبوابها، ويهرّب المسؤولون والمحظيّون أموالهم إلى الغرب الواقع تحت سيطرة الخزانة الأميركية، وتمتنع المصارف عن دفع أموال المودعين. ويبدأ مسار الانهيار. أما اليوم فلا تقارن الأزمة بخطورتها مع ما حدث في تشرين الأول 2019، ولكننا لا نسمع صوتاً ولا حسيساً من المجموعات التي احتلّت الشارع دفعةً واحدة من أجل ستة سنتات فقط.
مساعدات الجيش… المشروع الأميركي
بالعودة إلى مؤتمر معهد الشرق الأوسط، تعتمد مساعدة وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الدفاع الأميركية دانا سترول على سطرين من الاستراتيجية الأمنية الوطنية المرحلية الصادرة في آذار 2021 في ورقة إدارة بايدن ووزارة الدفاع للشرق الأوسط. يتحدث الأول عن أنّ الهدف الأميركي هو لخفض التوترات في المنطقة، ويشير الثاني إلى استهداف العمل مع الشركاء فيها لمواجهة العدوان والتهديدات الإيرانية للأمن الإقليمي. وما يمكن للولايات المتحدة القيام به – هنا الجملة المهمة – هو الاستثمار في الشركاء والحلفاء. يظهر من خلال مداخلات في المؤتمر أنّ وظيفة الجيش اللبناني التي حدّدتها واشنطن، هي إعاقة مرور السلاح إلى المقاومة ومحاصرتها، وتحدثت سترول عن تمويل 59 مليون دولار من وزارة الدفاع كتسليح وسداد تكاليف ومدفوعات وتحسينات أمنية على الحدود، وعمليات على طول الحدود اللبنانية مع سوريا. ووضع دايفيد هيل سياسة أميركا عبر تقوية القوات المسلحة، مقابل سياسة إيران في تقوية حزب الله. لم نقرأ كلمة واحدة عن مساعدة الجيش للدفاع عن لبنان من الاعتداءات الإسرائيلية.
والكلام الأكثر وضوحاً وفجاجةً يشير أيضاً إلى تمييز أهداف «برنامج القيادة الأميركية» مع الجيش اللبناني، عن بقية أهداف البرامج الموضوعة لجيوش المنطقة في الأردن ومصر والبحرين وعُمان والسعودية، والتي تقوم وظيفتها على دعم هذه الأنظمة سياسيّاً، والمحافظة على الحكم فيها، بينما وظيفة دعم الجيش اللبناني هي «تخريب سياسي متعمّد لخصومنا»، وهؤلاء الخصوم هم إيران وحزب الله.
سيف العقوبات
نعود إلى مركز «راند» الذي يوصي بأنّ «التلويح بالقوة صار مرادفاً للتلويح بالقدرة في الواقع، وإنّ التمكّن من التأثير على حسابات الدول المعادية لتوجيه مسلكها، يغطي طائفة عريضة من الاحتمالات، فهناك التهديد باستخدام القوة، وتنظيم عزلٍ دولي، وإلحاق الأذى الاقتصادي، بالإضافة إلى دعم المعارضة المحلية، والتأثير في وسائل الإعلام، وتشكيل التصورات. فأدوات القوة عديدة ومتنوعة، ومن المفيد تصنيفها بحسب ما تريد أن تُحدثه من تأثير على مسلك الدول المعادية، هذا ما نطلق عليه تسمية «القدرة على الإرغام»»، انتهى الاقتباس.
من هنا نستطيع قراءة العقوبات على الوزير جبران باسيل، دون غيره من السياسيين، والعقوبات على وزيرين من الثامن من آذار في لحظة مفصلية، وفي رسالة تهديد إلى آخرين، وبعدها إفشال المبادرة الفرنسية، واعتذار السفير مصطفى أديب، ومن ثم مفاجأة الرئيس الحريري اللبنانيين والعالم باستعداده لتشكيل حكومة إنقاذية بعدما تمنّع وتدلّع طويلاً. يضع الحريري التكليف في جيبه، ويمارس السياحة في عواصم العالم، ومن ثم يحمّل رئيس الجمهورية مسؤولية عدم التشكيل.
لكن ثمة حقيقة يعرفها المبتدئون في السياسة، وهي أنّ الأميركي لا يزال (يمون) على السعودية لرفع الحظر عن الحريري إذا كان يريد تأليف حكومة، أو غضّ النظر، في بلد يسير نحو الهاوية بسرعة جنونية؟
هنا يحضر عدد من الأسئلة المشروعة منها: هل إعدام مجلس النواب لخطّة التعافي المالي يأتي من فراغ، وهل إقرار البطاقة التمويلية أكثر تعقيداً من مباحثات الاتفاق النووي؟ وهل ترهيب الرئيس حسان دياب، ومنعه من اتخاذ أي إجراء لتخفيف المعاناة عن الناس لا يصبّ في السياق نفسه؟ وهل تغاضي وزير الاقتصاد ووزراء كثر عن كل الارتكابات هو صدفة؟ وتأتي التعاميم المتكررة لحاكم مصرف لبنان لتستكمل الطوق الذي يؤدي إلى انهيار الليرة، وإلى أزمة بنزين مفتعلة، فزيادة لمعاناة المواطنين، فتوسيع دائرة الفقر، ما يحوّل البلد إلى نسخة مصغّرة عن جهنّم.
إذاً، أصبح المشهد واضحاً. تستخدم واشنطن سياسة «التعذيب الاقتصادي» والتوجيه الإعلامي في سبيل تحقيق أهدافها السياسية، عبر شيطنة فريق معيّن، والتغاضي عن الآخرين، ومن ثم انتزاع الاعترافات في صناديق الاقتراع. وتمنع الرئيس سعد الحريري من تشكيل حكومة وتقف في اعتذاره حالياً، وتدفع إلى المماطلة لقضم الوقت، وصولاً إلى الانتخابات النيابية التي تعوّل عليها واشنطن لتغيير خريطة المجلس النيابي، واستعادة الأكثرية النيابية، إلى حين نضوج الملفات على طاولات التفاوض في الإقليم، لنقل الجهد إلى مواجهة التنّين الصيني.
* باحث سياسي