موقع “الناشر”
تعمد الوحوش الكاسرة والضواري إلى إثارة الرعب في محيطها لبسط سيطرتها ونفوذها بفعل القوة. لذا عندما تشعر بضعف أو وهن اصابها تسعى الى اظهار المزيد من القوة والبطش لترسيخ قاعدة الخوف منها والانصياع لها. كذلك يحصل مع الوحش الكاسر الذي يحكم العالم منذ عقود.
لا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الاميركية تعيش فترة غير مستقرة ولا معتادة منذ تولي الرئيس السابق دونالد ترامب مقاليد الحكم موصولًا بالإدارة الجديدة برئاسة الرئيس جو بايدن الذي يحاول الحد من النتائج الكارثية على صعيد الهيمنة الاميركية وصورة الولايات المتحدة. ولعل ما اظهرته السنوات الاخيرة من ضعف حقيقي لدى بنية النظام والدولة زاد من حدة ظهوره ما مر على العالم وبالأخص الولايات المتحدة بعد جائحة كورونا في السنة الاخيرة.
الشعور الاميركي بنقص القوة والسيطرة بدأ يتجلى بعد فشل المخطط الاميركي في انهاء حالة المقاومة في سوريا والعمل على فصل العراق جغرافيًا وديموغرافيًا عن محيطه من خلال مخطط داعش ومشروع التقسيم.
ما حصل في سوريا انطلاقًا من العام 2011 مرورًا بكل المراحل -من ضمنها ما جرى في العراق- كان يهدف بشكل اساسي الى اعادة ترسيخ الهيمنة الاميركية واخضاع الحكومات والشعوب التي لم تسلِّم بالطرق السياسية والدبلوماسية وغيرها. سوريا على رأس الدول التي مانعت تنفيذ كامل المشروع الاميركي في المنطقة وبالتالي تدعيم وجود كيان الاحتلال الاسرائيلي على ارض فلسطين المحتلة.
العمل الدؤوب والمخطط بعناية لما بات يعرف بتحالف قوى المقاومة في المنطقة انطلاقًا من ايران مرورًا بالحشد الشعبي في العراق وسوريا دولة وجيشًا وشعبًا وليس انتهاءً بحزب الله في لبنان ودوره المحوري في لبنان وسوريا وفصائل المقاومة الفلسطينية، استطاع عرقلة مسار المشروع الاميركي رغم قساوة المعركة وشراسة المعتدي.
فضلًا عن ذلك تستشعر الولايات المتحدة الخطر الكبير من النمو الصيني المطرد اقتصاديًا وازدياد النفوذ السياسي من بواب الاقتصاد خصوصًا في الجغرافيا الأكثر تأثيرًا. نتحدث عن منطقة غرب آسيا وافريقيا. كما ان الدخول الروسي الواسع في المياة الدافئة من بوابة الازمة السورية، اعطى خصوم الولايات المتحدة الاستراتيجيين اوراق ضغط ونفوذ وتأثير لم تكن الولايات المتحدة تحسب حساب فقدانها خلال العقدين الاخيرين.
يضاف الى المشهد طبعًا العامل الايراني المؤثر والصلب والذي نجح بشكل أو بآخر في تخطي مرحلة الحصار والحرب الاقتصادية والأمنية بذكاء وصلابة رغم ترتيب عدد من الخسائر. ولعل أبرز مصاديق ذلك الرضوخ الاميركي بالجلوس مجددا على طاولة مفاوضات غير مباشرة من اجل العودة الى الاتفاق النووي وهو ما صار منجزًا بشكل كبير.
محليًا يشهد النظام اللبناني الذي بني وأنشئ للعب دور محدد، مر بعدة مراحل مفصلية اعادت احياءه ولو شكليًا بعد سلسلة من الخضات الامنية والسياسية، يبدو انه وصل الى مرحلة لا عودة، والشكل التقليدي للنظام والسلطة وادارة البلاد لم يعد مجديا للاستمرار بادارة شؤون البلاد والعباد بالطريقة نفسها.
في سابق العهود وصل الاشتباك السياسي الى نقطة لا عودة انسداد افق ساعد على إعادة صياغتها أو حلحلتها بشكل أو بآخر تأثير اقليمي ما -اتفاق الطائف والدوحة نموذجًا- ساهم بشكل أو بآخر في اعادة احياء النظام ونفخ الحياة فيه من جديد. اذًا ما الذي تغير اليوم ولماذا لا نعود لنفس المنهجية في ايجاد الحلول؟
الجديد اليوم هو ما افتتحنا به الحديث. الراعي الاول للشكل اللبناني الحالي وادواته الاقليمية منشغل بمعالجة ازماته المباشرة ويبحث عن سبل لتبريد بعض المحاور ومعالجة اخرى، ما يجعل لبنان في اسفل سلم الاهمية بالنسبة لرعاته.
السعودية مثلًا كدولة اقليمية ذات نفوذ وتأثير على المشهد السياسي في لبنان تعاند اليوم ايجاد حلول للازمة المستفحلة في لبنان بشكل لا يتوافق مع رغباتها وتوجهات ولي العهد محمد بن سلمان. كذلك فرنسا كتابع أوروبي مباشر للسياسية الاميركية لا تملك اليوم ادوات الحل والربط في لبنان، وذلك يعود لفقدان الولايات المتحدة الاميركية بشكل اساس مفاتيح عوامل الضغط والنفوذ نتيجة لتراجع هيمنتها ونفوذها في المنطقة.
باختصار يعيش العالم والمنطقة وفي قلبها لبنان، مرحلة جديدة من اعادة رسم الخارطة الجغرافية والجيوسياسية بناء على ما استجد من نفوذ وصعود اسهم دول عدة من شأنه ان ينافس الولايات المتحدة على المنطقة بالحد الادنى.
لذا يربط البعض في لبنان المشهد الحالي بصراع النفوذ في المنطقة ويراهن كما في السابق على التبدلات والتغيرات في موازين القوى ليحجز له مقعدًا في حال التوصل الى حلول. اما البعض الاخر فقد بدأ يتحسس مكامن الخلل والتغيير ويعمل على ترتيب بيته الداخلي واعادة صوغ العلاقة مع الجوار لا سيما سوريا.
بين هذا وذاك تعمل المقاومة بما تمثله سياسيًا وشعبيًا على حماية ما تبقى من هذا البلد للحد من وقع الانهيار ومن ثم الانفجار، لضمان الحد الادنى من بقاء ما يمكن البناء عليه بعد هدوء العاصفة.
هل يدرك الآخرون شكل وحجم المرحلة التي نمر بها وعلى ماذا نحن مقبلون لتدارك ما أمكنهم؟ وما هي حجم الخسائر التي سيخلفها سقوط الوحش الكاسر واحتضاره؟