احتجاجات السّودان بين ”الثّورة” و”الثّورة المضادّة”.
-د.محمود الشربيني
-الميادين نت
بعد أن تمَّ إسقاط نظام البشير في السودان، تعالت أسقف طموحات الجماهير في نظام سياسيّ يجسّد الحالة الثورية التقدمية ومتطلّباتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسة المستقلّة.
-جاءت الاحتجاجات في السودان بعد إعلان الحكومة الجديدة رفع الدّعم كلياً عن الطّاقة والوقود.
تجدّدت موجات الغضب في العديد من المدن السودانية، اعتراضاً على غلاء المعيشة وتردي الأوضاع الاقتصادية، وسط توقعات بارتفاع معدلات التضخّم إلى أكثر من 500%، وخروج العديد من الأعمال من دائرة الإنتاج. ويعاني السودان ارتفاع الديون الخارجية إلى أكثر من 60 مليار دولار، بسبب العقوبات الأميركية والحرب الأهلية وانهيار معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية، بسبب الفساد وسوء الإدارة والسياسات التي اتّبعت خلال فترة حكم عمر البشير التي استمرَّت قرابة 30 عاماً.
جاءت الاحتجاجات هذه المرّة بعد إعلان الحكومة الجديدة رفع الدّعم كلياً عن الطّاقة والوقود، تنفيذاً لبرنامج البنك الدولي، تحت مُسمّى “الإصلاح الاقتصادي”، فهل تبدَّلت السياسات بعد سقوط البشير أو انقضَّت الثورة المضادّة على الثورة؟!
بعد أن تمَّ إسقاط نظام البشير، تعالت أسقف طموحات الجماهير في نظام سياسيّ يجسّد الحالة الثورية التقدمية ومتطلّباتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسة المستقلّة، بعيداً من الإملاءات والتدخلات الخارجية. ولأن السودان يعيش مرحلة مفصليّة في تاريخه، سيتحدّد من خلالها مصيره ومستقبله، فعلينا أن ندرك طبيعة المرحلة وتحدّياتها، وما فيها من ملابسات، والعقيدة السياسية والاقتصادية للإدارة الانتقاليّة الحاكمة.
بسقوط البشير، تولى المجلس السيادي إدارة المرحلة الانتقالية، والتي حُدِّدت بفترة زمنية تُقدّر بـ39 شهراً، وهو يتكوَّن من 5 عسكريين و5 مدنيين من قوى “إعلان الحرية والتغيير”، التي كانت العنوان الرئيسي، والتي تنضوي تحتها كلّ القوى والأحزاب والحركات السياسية التي كانت تطالب بإسقاط النظام القديم، لكن سرعان ما انقسمت هذه القوى بعد فضّ اعتصام القيادة العامة بالقوة، والتي أُطلِق عليها في ما بعد “موقعة المجزرة”.
كان ذلك بمثابة الفراق بين بعض القوى والمجلس العسكري الذي فقد شرعيته الأخلاقية والمجتمعية، في حين بقي الجزء الآخر منسجماً مع سياسات المجلس العسكري والظهير السياسي له. وبالتالي، تزعَّم المشهد السياسي تياران؛ الأول تحالف “نداء السودان”، الذي يغلب عليه الطابع الليبرالي، ويميل إلى الإصلاح والتغيير التدريجي، وينحاز اقتصادياً إلى النموذج الرأسمالي.
هذا التّحالف يحظى بدعم دولي وإقليمي كبير، ويُطلَق عليه مصطلح “تيار الهبوط الناعم”، نتيجة تحالفه مع الثورة المضادة، وخصوصاً المجلس العسكري، فضلاً عن ميوعة مواقفه. يرفع هذا التيار شعارات حرية التعبير وحقوق الإنسان والتطوّر الديمقراطي، من دون المساس بجوهر عمليّة التغيير الاجتماعي كمعيار أساسي للتغيير الثوري الجذري… وهو يتبنى أفكاراً انعزالية تهدف إلى الانسلاخ من عروبة السودان، ما انعكس في التعديلات الدستورية الجديدة، التي تم على أثرها شطب المادة التي تنصّ على عروبة السودان.
التيار الآخر هو “قوى الإجماع الوطني”، والذي يغلب عليه الطابع اليساري والقومي، العازم على استكمال المسار الثوري والتغيير الجذري الشامل، والّذي يرى أنّ أيّ محاولة أخرى هي التفاف حول إرادة الشعب السوداني وانحراف في أهدافه لمصلحة قوى الثورة المضادة، ويعتبر أنّ كلّ الحركات الثورية والنقابات الفاعلة وتجمّع المهنيين بمثابة الغطاء السياسي له. ونظراً إلى طبيعة القوى الموجودة المحددة للقرار السياسي، فإن المجلس السيادي يمتلكه كلياً، وعلى رأسه المجلس العسكري.
أمّا موازين القوى في الحياة السياسية، فتميل بقوة إلى “تيار الهبوط الناعم” وما يملكه من أدوات تنظيمية وإعلامية وأجندات خارجية داعمة. وبتحالف هذا التيار مع المجلس العسكري، يكتمل شكل الثورة المضادة التي تتّفق في الأهداف والاستراتيجيات.
نتج من هذا المشهد حكومة انتقالية تهدف إلى الالتفاف على الإرادة الشعبية الحرّة، تنفيذاً لمشروع الثورة المضادة. وقد أدت انحرافاتها إلى نسق التطبيع، وأصبحت أسيرة لبرنامج البنك الدولي المتناقض دوماً مع طموحات الشعوب في التنمية المستقلة.
أمّا عن التّطبيع، فإنَّ ما يؤيّده التيار الحاكم، وفق رؤية سياسية وأخرى نفعية، يتمثّل في الرؤية السياسية بضرورة الخروج على “الهيمنة العربية التاريخية على القرار السياسي السوداني”. وبذلك، تجسِّد عملية التطبيع، في نظر هذا التيار، خطوة تجاه “استعادة الهويّة السودانية الضائعة”.
وتتبلور الرؤية النفعية في أنّ التطبيع مع “إسرائيل” سيمكِّن السّودان من تأسيس شراكات ذكية في المجال التجاري والزراعي والتقني معها. وبذلك، يستطيع الخروج من أزمته الاقتصادية، ويؤسّس لمستقبل أفضل.
ووفقاً لقراءة المشهد السياسي الراهن في السودان، من المتوقّع أن يُحدث قرار التطبيع مع “إسرائيل” شروخاً في بنية الحكومة الانتقالية، ولا سيما أن توقيع الحكومة على الاتفاق يوم 6 كانون الثاني/يناير، جاء قبل إجراء الانتخابات البرلمانية العامة وقيام حكومة منتخبة بالنظر في قضية التطبيع قبولاً أو رفضاً، كما صرّح حمدوك في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بمعنى أنّ بعض الأحزاب السياسية المعارضة للتطبيع مع “إسرائيل” أعلنت صراحة خروجها من قوى “إعلان الحرية والتغيير” المساندة للحكومة الانتقالية، وهو الأمر الَّذي يسهم في خلق تحالفات سياسية جديدة داخل المشهد السياسي السوداني، تفسح المجال لظهور قوى الثورة المضادة إلى الواجهة السياسية.
وقّع السودان اتّفاق تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وحصل في الوقت نفسه على مساعدة مالية من الولايات المتحدة، صارت متاحة بعد سحب الخرطوم مؤخراً من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، فضلاً عن توفير تسهيلات تمويلية لسداد متأخّرات السودان للبنك الدّولي.
أما صندوق النقد والبنك الدولي، فمن المعروف أنهما يفرضان رؤيتهما الاقتصادية على شكل توصيات وبرامج إصلاح، هي في الحقيقة شروط ملزمة للدول الممنوحة، تهدف إلى تحقيق مآرب خبيثة، أهمها أن تبقى في جعبة القرار الاقتصادي للبنك الدولي وإرادته.
على سبيل المثال، إنَّ السودان الذي يعاني وضعاً اقتصادياً شديد القسوة، لجأ إلى الحلول التي يقدّمها البنك الدولي. وقد حصل على ملياري دولار مقابل تنفيذ برنامج ما يُسمى بـ”الإصلاح الاقتصادي”، ومن أهم بنوده:
-تحرير سعر الطاقة ورفع الدّعم عن الوقود.
-تعويم الجنيه السوداني.
هذه سياسات الإفقار في الكثير من الدول الملزمة بتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي، بمعنى أن يعطيك مالاً حتى يفقرك، ما أدى إلى تفاقم الوضع المعيشي في السودان، الذي يقف الآن على مفترق طرق.
لقد أصبحت ورقة التطبيع محروقة حتى إشعار آخر، وبات سوء الأوضاع المعيشية نتيجة انعكاسات سياسات البنك الدولي وشروطه التي تحمَّل نتيجتها الفقراء والثورة المضادة، يغرز أظافره في أيّ تحول جاد نحو الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية، وصارت القوى الثورية تهدّد بتظاهرات صاخبة إن لم تُصلح الأوضاع على الأرض، في حين تبقى سماء البلاد حبلى بالمفاجآت!