جان طويلة- اقتصادي لبناني
للتعافي من هذه الأزمة التاريخية التي يمرّ بها لبنان، على السلطة تنفيذ سلسلة من الإجراءات على المدى القصير والمتوسط والطويل، من أجل تحقيق الاستقرار النقدي… هنا أبرزها.
تنشر هذه المادة بالتعاون مع المبادرة العربية للإصلاح ARI
أثبت الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان مؤخراً، صحة نظرية الاقتصادي روبرت ماندل “الثالوث المستحيل” بطريقة مذهلة. تنص النظرية على أنه لا يمكن الجمع في آن واحد بين ثبات سعر الصرف وحرية حركة رأس المال واستقلالية السياسات النقدية.
سلّط الانهيار الضوء على التكاليف الناجمة عن تبني سياسات نقدية متهورة أدت إلى استنزاف احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي الذي تراكم بتكلفة هائلة في محاولة للحفاظ على ثبات سعر الصرف وحرية تدفق رؤوس الأموال. كانت عمليات “الهندسة المالية” لبنك لبنان المركزي (مصرف لبنان) هي أبرز مظاهر تلك السياسة التي اعتمدت على تجميع العملات الأجنبية من خلال اقتراض أموال النقد الأجنبي من المصارف المحلية بأسعار فائدة عالية بصورة غير معهودة مقارنة بأسعار الصرف الدولية.
جرى اعتماد هذه السياسة في 2012 وكان من المفترض أن تكون عملية محدودة وعرضية لكنها سرعان ما تضخمت ووصلت إلى مستويات لا يمكن تحملها، فقد حاول مصرف لبنان والطبقة السياسية الحاكمة جاهدين تمويل الدولة (وشبكات المحسوبية الخاصة بهم) والإبقاء على نظام ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأمريكي المعمول به منذ عام 1997. وسعى الزعماء السياسيون إلى استرضاء مؤيديهم من خلال توسيع نطاق القطاع العام، الأمر الذي أدى إلى زيادة استنزاف ميزانية الدولة سنة تلو الأخرى.
بحلول آذار/مارس 2020 -قبل أن يتخلّف لبنان عن سداد 1.2 مليار دولار من سندات يوروبوند التي كانت مستحقة في 9 آذار/مارس- وصل الدين العام اللبناني إلى أكثر من 170% من الناتج المحلي الإجمالي. وهو واحد من أعلى معدلات الدين في العالم. لكن وعلى الرغم من الوضع المتأزم الذي لا يُطاق، بقيت السياسات المالية والنقدية تحظى بدعم سياسي مستمر، عبر استغلال الأحزاب إمكانية وصولها إلى موارد الدولة لتمويل شبكات المحسوبية الخاصة بهم.
على الرغم من تلك السياسات المالية والنقدية غير المستدامة والمتناقضة في أغلب الأحيان، فقد نجح النموذج الاقتصادي اللبناني مؤقتاً في تأمين تدفقات رأس مال كبيرة في الفترة بين عامي 2008 و2011، إذ سمح التوافق السياسي الجديد الذي أعقب “اتفاق الدوحة” بإحلال بعض الاستقرار.
قلق المغتربين اللبنانيين من الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 وقدرة المصارف الدولية على مواصلة عملها، دفعهم إلى إجراء تحويلات كبيرة إلى لبنان، أسفرت عن نتيجة إيجابية في ميزان المدفوعات. ليستغل الزعماء السياسيون بدورهم تلك المؤشرات الإيجابية في ميزان المدفوعات للدفاع عن النموذج الاقتصادي بوصفه نموذجاً ناجحاً، وبناءً على ذلك تم إرجاء الإصلاحات. لكن هذا الوهم بدأ يتبدد عام 2011، عندما تدهورت علاقات لبنان مع دول الخليج بسبب سطوة “حزب الله” المزعومة على الدولة وأيضاً نشوب النزاع السوري. ساهم كلا الأمرين في إحداث حالة من عدم اليقين السياسي والاجتماعي في البلاد وأشعلا فتيل عدم الثقة في الدولة واستقرارها المالي. وقوَّضا أيضاً تدفقات العملة الأجنبية إلى لبنان، ليبدأ صافي الأصول الأجنبية أول انخفاض متواصل له في تاريخ لبنان. وفي الآونة الأخيرة، أدت حركة الاحتجاج الشعبية التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2019 وتفشي وباء كورونا في مطلع عام 2020 والأزمة الحكومية ثم الانفجار المدمر للمرفأ الذي وقع في وقت لاحق من العام نفسه، إلى زيادة الضغوطات على الاقتصاد.
أزمة الليرة
ترجع جذور “أزمة العملة” اللبنانية التي نشهدها في الوقت الحالي إلى النموذج الاقتصادي الذي تناولناه سابقاً، ويمكن القول إن بدايتها امتدت على طول فترة انحدار (من 2011 إلى 2019) سبقت فترة الانهيار الكامل للعملة ( من عام 2019 إلى الآن).
بالنسبة إلى كثير من اللبنانيين، كان الهبوط في سعر صرف الدولار أمام الليرة الذي بدأ في أيلول/سبتمبر 2019 بمثابة أول مؤشر على أن هُناك خطب ما. فقد بدأت الليرة اللبنانية في التراجع عن سعر صرفها الرسمي الذي يبلغ 1,507.5 مقابل الدولار لأول مرة منذ أكثر من عقدين. وفاقم انخفاض احتياطي مصرف لبنان من العملات الأجنبية الانهيار، وأدت ثقة الناس المتردية في النظام المالي إلى سحب الودائع من البنوك وتكديس اللبنانيين للعملة النقدية وهروب رؤوس الأموال.
وفي ظل عدم وجود قانون لتنظيم وضبط رؤوس الأموال(كابيتال كونترول)، بدأت البنوك في فرض قيودها الخاصة على تحويلات العملة الأجنبية ورؤوس الأموال، وأيضاً على سحب الدولار -بل وحتى الليرة اللبنانية- وهو ما أتاح الفرصة لحدوث كافة أشكال الانتهاكات والتجاوزات. نتيجة لذلك، انخفضت احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي (باستثناء الذهب وسندات اليوروبوند والأوراق المالية الأجنبية) بمقدار 14 مليار دولار منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019. ومع تحول العالم إلى الاقتصاد غير النقدي، ظل لبنان يجدف في الاتجاه المعاكس: فقد تضخمت نسبة الكتلة النقدية المتداولة خارج مصرف لبنان لتصل إلى 487% منذ أيلول/سبتمبر 2019.
ومنذ ذلك الحين فقدت الليرة اللبنانية 90% من قيمتها السوقية، ليصل سعر صرف الليرة في مطلع عام 2021 إلى 15 ألف ليرة مقابل الدولار في السوق السوداء، وهو أدنى مستوى لها على الإطلاق.
تفاقمت المشكلة منذ العام 2017، حين أقر البرلمان زيادة الأجور في القطاع العام قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية. منذ ذلك الحين نما عجز الموازنة المتكرر في لبنان بشكل كبير وغير منضبط، مع تضخم الإنفاق العام على مصروفات الموظفين من 30% من موازنة الدولة في العام 2017 إلى نصف الموازنة في العام 2020. تستنزف شركة كهرباء لبنان، التي تديرها الدولة، جزءاً كبيراً من الموازنة أيضاً، وهذا قطاع يفتقر إلى الكفاءة بدرجة كبيرة ويلحق بالموازنة تكلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة. على مدار العقد الماضي، قامت الحكومة اللبنانية بتحويل أكثر من 15 مليار دولار أميركي إلى شركة “كهرباء لبنان”، بمتوسط يبلغ 42% من العجز المالي خلال الفترة نفسها. أسهمت هذه التكاليف في ارتفاع إجمالي في عجز الموازنة، تجاوَز 11% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019، وهو آخر عام تتوفر حوله أرقام واحصاءات حكومية.
أما التكلفة الرئيسية الثانية فتمثلت في الأنشطة “شبه المالية” التي قام بها مصرف لبنان بتأييد من الطبقة السياسية. عادة ما تتم هذه الأنشطة عبر الاستعانة باحتياطيات النقد الأجنبي لدعم ما كان ينبغي اعتباره إنفاقاً حكومياً، وهو ما يزيد بالتالي من إخفاء قيمة العجز الحقيقي. فخلال الفترة بين العامين 2014 و2017، قدم مصرف لبنان حزَم تحفيزية متتالية وكبيرة في صورة قروض مدعومة، تجاوزَت قيمتها 6.1 مليار دولار أميركي، كان ما يقرب من 59% منها موجهاً إلى القطاع العقاري. إلا أن هذه العملية توقفت في نهاية العام 2017، نتيجة الاستغلال والاستخدام غير السليم لهذه القروض من قِبَل بعض البنوك.
استفاد مصرف لبنان من هذه الأنشطة لتشجيع عملية الدولرة، ومن ثَم خلق ودائع بالدولار تم “إنتاجها” في لبنان. إذ تنشأ الأموال حين يقدم النظام المصرفي القروض التي بدورها تُنشئ الودائع. يُقدَّر اليوم ما يسمى بالدولارات اللبنانية أو “اللولارات” (Lollars) بحوالي 53.6 مليار دولار أميركي.
وسَّع مصرف لبنان أيضاً من نطاق استخدامه لاحتياطيات النقد الأجنبي خلال النصف الأول من العام 2020، حين اعتمدت وزارة الاقتصاد والتجارة برنامجَ دعمٍ جديداً سيّءَ التصميم، تم تقديمه إلى التجار بهدف تغطية استيراد السلع الأساسية ومنها القمح والوقود والأدوية. مُوِّل البرنامج من خلال احتياطيات النقد الأجنبي في مصرف لبنان، ولكن جرى استغلاله سياسياً. فرَض هذا ضغطاً شديداً على احتياطي النقد الأجنبي في لبنان، مكلفاً مصرف لبنان ما يقدَّر بنحو 405 مليون دولار أميركي شهرياً. أدى هذا البرنامج، مصحوباً بارتفاع نسبة التضخم، إلى اكتناز السلع والبضائع، مع عدم استفادة الفئات الضعيفة من السكان في الغالب من البرنامج. أتاح البرنامج أيضاً المجال لمخطط تهريب راسخ يجري بموجبه تهريب المواد المدعومة الأكثر استيراداً من خلال شبكات غير رسمية، ولكنها مربِحة، تم تطويرها على طول الحدود الحافلة بالثغرات مع سوريا. ترسخت أنظمة التهريب على مدار عقود، واليوم يستفيد منها بشكل أساسي تنظيم “حزب الله” وحلفاءه على الجانب اللبناني من الحدود ونظام بشار الأسد على الجانب السوري.
نتيجة لهذا القطاع العام المتضخم وهذه الأنشطة شبه المالية، كانت الحكومة مثقلة بتكلفة رئيسية ثالثة، وهي خدمة ديونها. فقد وصل إجمالي الدين العام إلى 144.6 تريليون ليرة لبنانية في يناير/كانون الثاني 2021، أي ضعف ما كان عليه في العام 2011، قبل عقد من الزمن. زادت خدمة الديون بنسبة 50% منذ 2011 إلى مارس/آذار 2020 عندما عجز لبنان عن سداد ديونه. انتقد كثيرون ذلك واعتبروه تخلفاً فوضوياً عن السداد، وتوقّعوا أن يقوم حاملو سندات آخرون بـ”تسريع” سداد ديونهم، ومن ثم حدوث تخلّف عن السداد في الحافِظات المصرفية اللبنانية. من المثير للدهشة أن هذا التسريع لم يحدث؛ ويقول مؤيدو القرار إنه نجح في إنقاذ لبنان من القيام بسحب المزيد من الاحتياطي الأجنبي، وحمَى المُودِعين من استخدام ودائعهم في دفع الدين الخارجي بسبب تدهور الاقتصاد.
كانت الهيئات المالية في الحكومة اللبنانية تعمل طوال الوقت في ظل إدارة سيئة، مع قليل من الشفافية أو المساءلة. لم يمرّر لبنان أيّة موازنة بين عامَي 2005 و2017، واختفى دور البرلمان في الرقابة على المالية العامة، مع غياب قوانين مراجعة الموازنة منذ العام 2003. وقاوم مديروها الماليون باستمرار توصيات صندوق النقد الدولي المتكررة المتعلقة بتعويم العملة، بموجب الفصل الرابع. فقد أصر الصندوق على تعويم العملة منذ 2015 باعتبار ذلك إجراءً إصلاحياً أساسياً وفورياً، ولكن القادة اللبنانيين كانوا يخشون أن هذا قد يكشف حقيقة الوضع الاقتصادي والمالي في البلاد، ويفجر الفقاعة المحيطة بسمعة البلاد.
أدت نتائج كل هذه التكاليف الاقتصادية، إضافة إلى عدم الرغبة في فك ربط العملة، إلى خسائر إجمالية غير مسبوقة تكبَّدتها الحكومة اللبنانية ومصرف لبنان والبنوك التجارية، وصلت قيمتها إلى 241 تريليون ليرة لبنانية.وأدت أيضاً إلى تراجُع مقلِق في احتياطيات لبنان من النقد الأجنبي، التي كانت قد نقصت عن عتبتها الإلزامية التي يحددها البنك المركزي وتصل إلى 16 مليار دولار أميركي. ولبنان اليوم عاجز عن الاستمرار في برنامجه للدعم الذي سيؤدي حتماً إلى فرط التضخم ونقص في العملة وانهيار أكبر لها. ومع تخلف الدولة عن السداد، يعجز المستوردون عن استخدام أي أرصدة ائتمانية دولية، وقد كافح القطاع الخاص بالفعل من أجل الوصول إلى موارد تمويل التجارة والشركات في اقتصاد شديد الدولرة، يواجه اليوم ضغوطاً أكبر من أي وقت مضى.
الطريق إلى الاستقرار النقدي
للتعافي من هذه الأزمة التاريخية، على لبنان تنفيذ سلسلة من الإجراءات على المدى القصير والمتوسط والطويل، من أجل تحقيق الاستقرار النقدي. من شأن هذا الاستقرار أن يوقف العجز المزدوج الذي تعاني منه البلاد، ويحجّم من الخسائر في الاحتياطيات الخارجية، ويخفض من حالة اللايقين في التعاملات الاقتصادية؛ وبالتالي يؤدي إلى تحفيز الأداء الاقتصادي على المدى الطويل. وإذا اقترن ذلك بعملية إعادة هيكلة للديون، وإعادة هيكلة القطاع المالي مع إجراء إصلاحات مالية، فيمكن للبنان أن ينجح في الانتقال من اقتصاد ريعي قائم على الخدمات إلى نموذج اقتصادي منفتح وتنافسي، تحكمه وتحركه تعريفات جمركية منخفضة ونظام مرن في تحديد سعر الصرف مع قطاع صادرات ديناميكي.
وذلك يتطلّب إجراءات عاجلة وفورية يمكن تنفيذها في إطار زمني لا يتجاوز 6 أشهر منها:
توحيد أسعار صرف العملات الأجنبية، بمساعدة تقنية من صندوق النقد الدولي، وذلك من خلال انشاء منصة صرف أجنبي تتمتع بالشفافية والسيولة والكفاءة لدرجة تسمح لأسعار الصرف بالاستجابة لقوى السوق. ولا بد من تقليل دور مصرف لبنان في صنع السوق، وخفض هذا الدور لينحصر في إدارة التقلّبات.
الحد من الاستخدام غير الفعال لاحتياطيات النقد الأجنبي، وذلك من خلال:
إصدار قانون لضبط وتنظيم رأس المال، بما يتماشى مع توصيات صندوق النقد الدولي، من أجل الحد من تدفق رأس المال الأجنبي إلى خارج البلاد، مع ضمان معاملة المُودعين بشكل عادل ومتساوٍ وإنهاء الانتهاكات والتجاوزات المتواصلة.
التحوُّل تدريجياً عن برنامج دعم السلع بالعملات الأجنبية الحالي، واستبداله بالتحويلات النقدية المباشرة إلى الأسر كخطوة أولى. ففي دراسة أعدَّها البنك الدوليّ، وُجد أن التحوُّل إلى برنامج تحويلات نقدية ذي تغطية واسعة (يشمل 80% من السكان) سيكون أكثر كفاءة وفعالية. من شأن هذا البرنامج أن يحسن ميزان المدفوعات اللبناني، وأن يمدد بفعالية الفترة الزمنية المتبقية قبل استنفاد احتياطي مصرف لبنان، وأن يسهم في تخفيف الآثار على الطبقتَين الفقيرة والوسطى في لبنان. علاوة على ذلك، فسوف يساعد أيضاً في خفض التكاليف التي يتكبدها احتياطي النقد الأجنبي في مصرف لبنان بنسبة تزيد على أكثر من 50%. وبعد ذلك، فإن أي برامج جديدة للدعم لا بد أن تشمل مخططاً شاملاً للحماية الاجتماعية يُدرَج في الموازنة المالية السنوية.
استعادة السيطرة على وجه السرعة على المعروض النقدي والحد من طباعة النقود من خلال:
إلغاء التعميم الأساسي للمصارف رقم 151 الصادر عن مصرف لبنان، الذي يعوض الدولار اللبناني (لولار) من خلال طباعة المزيد من النقود بالليرة اللبنانية. ولتحقيق هذه الغاية بنجاح، يتعين على حكومة لبنان ومصرف لبنان والبنوك، عبر إجراء سلسلة من المفاوضات، الاتفاقُ على توزيع واضح وعادل للخسائر الإجمالية التي تكبدتها الكيانات اللبنانية، والتي تقدر بنحو 241 تريليون ليرة لبنانية،7 مع تبنّي سياسة عامة أساسية تهدف إلى حماية المودعين إلى أقصى حد ممكن.
تحسين كفاءة الإنفاق العام وتحصيل الإيرادات الضريبية، فضلاً عن توفير الحيز المالي اللازم لوضع خطة ملائمة للحماية الاجتماعية. ولا بد من خفض العجز المالي نظراً إلى أن الطريقة الوحيدة لتمويله ومواصلة دفع أجور موظفي القطاع العام هي طباعة النقود. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي وضع أهداف واضحة للحد من حجم القطاع العام ولزيادة إنتاجيته، بما في ذلك القيام بهذا من خلال إخضاع قطاع الخدمة المدنية للمراجعة من قبل مؤسسة دولية مستقلة ووضع خطة شاملة للإصلاح الضريبي؛ (إضافة رابط للورقة البحثية التي نشرتها “مبادرة الإصلاح العربي” للمزيد من التفاصيل).
الانضمام إلى أحد برامج صندوق النقد الدولي، من أجل إتاحة السيولة النقدية الأجنبية، واستعادة الثقة، وتهيئة الظروف اللازمة للانتعاش الاقتصادي.
يقتضي الحفاظ على الاستقرار النقدي على المدى الطويل أن يعالج لبنان عجزه التجاري المزمن. وقد بدأت هذه العملية بالفعل، وإن كانت عن غير قصد ونتيجة لتخفيض قيمة العملة ونقص الدخل المتاح للأسرة. فقد شهدت الأشهر العشرة الأولى من عام 2020 انكماشاً صافياً في العجز التجاري بنسبة 55% مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2019، إذ تراجعت من 13.5 مليار دولار أميركي إلى 6.1 مليار دولار أميركي، وفقاً لأحدث الإحصاءات التجارية الصادرة عن مصلحة الجمارك اللبنانية . إضافة إلى ذلك، انخفضت الواردات من مركبات النقل والمعادن والمنسوجات والمعدات الكهربائية بنسبة تزيد على 50%. وفي الوقت نفسه، ارتفعت صادرات المنتجات النباتية بأكثر من 30% خلال نفس الفترة.
تتيح هذه التوجهات الفرصة لإعادة توازن التجارة اللبنانية عن طريق خفض الواردات وزيادة الصادرات. والسبيل لتحقيق كليهما يتلخص في الاستثمار في قطاعات إنتاجية مختارة ذات قيمة عالية، وخاصةً السلع الزراعية (الزيوت والنبيذ والتوابل والمُربَّيات) والمنتجات الحرفية (الملابس وأدوات المائدة والصابون). ولأن الطاقة الإنتاجية الصغيرة للبنان لن تكون قادرة على منافسة البضائع المستوردة من حيث الكمية، فإن ميزتها التنافسية تنبع من الجودة العالية نسبياً لمنتجاتها، فضلاً عن زيادة إقبال اللبنانيين على السلع المنتجة محلياً، وذلك لأسباب اقتصادية وتقاليد قديمة في استهلاك المنتجات المحلية. وقد بدأت صناعة الأغذية والمشروبات بالفعل في اختيار بدائل محلية للمواد الخام التي اعتادت على استيرادها من قبل. علاوة على ذلك، من الممكن أن يعود سعر صرف الليرة اللبنانية الأكثر قدرة على المنافسة بالفائدة على جميع القطاعات الإنتاجية.
لتحقيق هذه الغاية، يجب على لبنان أن يستثمر في البنية التحتية عالية الجودة والمستدامة التي من شأنها زيادة الإنتاجية. وهناك بالفعل خارطة طريق فعالة طُرحت ضمن توصيات مؤتمر “سيدر” عام 2018، والذي حصد نحو 11 مليار دولار من التعهدات الدولية لتمويل قائمة طويلة من مشاريع البنية التحتية، والتي لا يُمكن الوصول إليها إلا إذا التزمت الحكومة اللبنانية ببرنامج للإصلاح. بيد أن الاعتبارات السياسية حالت مع الأسف دون إحراز أي تقدم. ولذا يجب على لبنان البدء في إجراء هذه الإصلاحات، ويجب على شركائه الدوليين تفعيل آلية متابعة حازمة.
كانت فرص الحصول على التمويل تشكل عقبة رئيسية أمام الشركات اللبنانية، ولا سيما الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. وستتأثر هذه الفرص تأثراً خطيراً لفترة طويلة من الوقت بسبب الأضرار التي لحقت بالقطاع المصرفي نتيجة للأزمة الاقتصادية. فلا بد من وضع تدابير مبتكرة ومستدامة لضمان الحصول على التمويل في مرحلة ما بعد الأزمة.
الهدف المنشود من ذلك هو أن تصبح المنتجات اللبنانية أقدر على المنافسة، لا على الصعيد المحلي فحسب، بل في الخارج أيضاً، من أجل استكمال عملية الاستعاضة عن الواردات مع تشجيع الصادرات. يتمتع لبنان بالفعل بهوية راسخة على المستوى الوطني تشير إلى السلع ذات الجودة العالية، ويشكل الشتات الذي يضم الملايين من اللبنانيين قاعدة تسويقية واستهلاكية قائمة بالفعل. وبالإضافة إلى الخطوات المبينة آنفاً، ولزيادة الفوائد المحتملة للشركات اللبنانية إلى أقصى حد، يجب على السلطات أن تضع سياسة تصدير وطنية موجهة ومصممة جيداً لتحفيز الاستثمار في المنتجات ذات القيمة العالية. وهذا يقتضي أيضاً استئناف المفاوضات من أجل انضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية.
يتزايد الحديث حول إنشاء “مجلس نقد” في لبنان باعتباره السبيل الوحيد لضمان الاستقرار النقدي. فالمجالس النقد -التي تتألف من مجلس مستقل للعملات النقدية لا يمارس أي نوع من السياسات النقدية التقديرية ويجب أن يحتفظ باحتياطيات خارجية تعادل 100% من العملة المحلية المتداولة- أثبتت بالفعل نجاحها في عدد هائل من الدول كجزء من توافق سياسي نجم عن مسار تفاوضي جديد، وكثيراً ما اقترن بتشكيل دستور جديد وإجراء إصلاحات مؤسسية أخرى. بيد أن الطبقة السياسية في لبنان أظهرت مراراً وتكراراً عدم رغبتها في تنفيذ إصلاحات، ولو بسيطة، للنظام النقدي في البلاد.
الواقع أنه مع اعتراف صندوق النقد الدولي بقوة مجالس النقد في الدول الصغيرة، أشار أيضاً إلى أنها تتطلب وقتاً للوصول إلى التوافق، ولا بد أن تصاحبها “تغييرات قانونية ومؤسسية مهمة”، وأن البلدان ذات القطاعات المصرفية الضعيفة، مثل لبنان، قد تحتاج إلى توافق سياسي جديد قبل أن تتمكن من إنشاء مجلس نقد.
الإنتخابات في موعدها: توازن جديد في السلطة؟
خارطة الطريق المُبينة آنفاً هي أجدى الطرق وأشملها لكي يضع لبنان حداً للمصير المرعب الذي آلت إليه عملته. بيد أنه بالنظر إلى عدم رغبة الطبقة السياسية الحالية في اتخاذ أي إجراءات إصلاحية جادة على مدى العقود الأخيرة، فإن تنفيذ الاصلاحات يتوقف على حدوث توازن جديد في السلطة. والواقع أن لبنان لديه فرصة ثمينة -ربما تكون الوحيدة- لتحقيق هذا التحول السياسي من خلال الانتخابات البرلمانية المُزمع انعقادها في ربيع عام 2022. تُشكل هذه الانتخابات السبيل الوحيد أمام اللبنانيين لمحاسبة قادتهم السياسيين، فضلاً عن أنها قد تُقدم مساراً مؤسسياً إلى حكومة جديدة تتمتع بالإرادة والقدرة على التعامل بجدية مع صندوق النقد الدولي، وتنفيذ برنامج إصلاح حقيقي، واستعادة الثقة، وتهيئة الظروف اللازمة لإنعاش الاقتصاد. ولا يجوز تحت أي ظرف من الظروف تأجيل هذه الانتخابات، وإذا تأجّلت، لن يتبقى أمام البلاد سوى خيار واحد، هو الوصول إلى تسوية تفاوضية جديدة بين الأطراف الفاعلة الحالية. ومع أن هذا الخيار يقلل من فرص الإصلاح مقارنةً بالتحول المؤسسي عبر الانتخابات، لكنه يتيح الفرصة لتحقيق الاستقرار النقدي من خلال إنشاء مجلس نقد. وفي ظل وجود الطبقة السياسية نفسها، يُمكن لمجلس النقد أن يضمن الانضباط المالي وتنفيذ الإصلاحات اللازمة إلى أن تتعافى المؤسسات النقدية في لبنان بالقدر الكافي لتبني سياسة مستقلة.