ديكولونايز بالستاين – ترجمة نون بوست
منذ بداية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، بذل المحتلون دائما قصارى جهدهم من أجل تمييز أنفسهم عن سكان الأرض الأصليين. ويشمل ذلك بطبيعة الحال مجالات مثل التكنولوجيا حيث اعتُبر الفلسطينيون متخلفين وغير متحضرين، وذلك على عكس المستعمر الأوروبي المتحضر. وتمثّل عنصر التمايز الآخر في الأخلاق. حسب المحتل، كان الفلسطينيون يفتقرون لبعد النظر وماكرين وغير جديرين بالثقة وبالتالي غير أهل لامتلاك أراضي.
ولعل أبرز امتداد لهذا التفوق الأخلاقي كان ادعاء المحتلين أنهم لم يلجأوا إلى الحرب إلا للدفاع عن أنفسهم على عكس العرب المحاربين المتعطشين للفتوحات. وقد ساهم ذلك في ولادة أساطير على غرار “نقاء السلاح” والتأكيد المثير للسخرية بشأن سعي “إسرائيل” الدائم لإرساء السلام.
يمكن رؤية ذلك في الاسم الذي اختاروه لجيشهم “قوات الدفاع الإسرائيلية”. ومن المضحكات الأخرى أن هذا نفس التكتيك والاسم الذي تبناه جيش نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي كان يسمي نفسه بـ “قوات الدفاع الجنوب أفريقية”. يحرك هذا الخطاب الكثير من الثقافة السياسية في “إسرائيل” والمدافعين عنها ويخدم أهدافا متعددة.
الهيمنة على السرد
يكتسي التأطير أهمية بالغة. والقدرة على إملاء السرد، وامتلاك حرية تفسير الأحداث بشكل مثير للتعاطف مع نظرتك للعالم يمكن أن يكون وسيلة قوية بشكل لا يصدق. وحسب ما أظهرته العديد من الدراسات، يوجد انحياز مثبت تجريبيا تجاه الصهيونية والسرد الإسرائيلي في وسائل الإعلام الأمريكية. وهذا يعني أن الإسرائيليين لديهم امتيازات كبيرة في تأطير ما يحدث في فلسطين.
يقول الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي في روايته “رأيت رام الله”: من السهل طمس الحقيقة بخدعة لغوية بسيطة: ابدأ حكايتك من “ثانيا” […] ابدأ حكايتك من “ثانيا” لتصبح أسهم الهنود الحمر هي المجرمة الأصلية وبنادق البيض ضحية بأكملها. يكفي أن تبدأ حكايتك من “ثانيا”، حتى يصبح غضب السود ضد الرجل الأبيض هو الفعل الوحشي”.
ويضيف: “يكفي أن تبدأ حكايتك من”ثانيا” حتى يصبح الفيتنامي المحروق هو الذي أساء إلى إنسانية النابالم! وتصبح أغاني فيكتور هارا هي العار وليس رصاص بينوشيه الذي حصد آلاف الأرواح في ملعب سنتياغو! يكفي أن تبدأ حكايتك من “ثانيا” حتى تصبح ستي أم عطا هي المجرمة وأرئيل شارون هو ضحيتها!”.
إن “السرد” الانتقائي للقصة هو بالضبط ما تهدف “إسرائيل” إلى تحقيقه من خلال تأطير جميع عملياتها العسكرية تحت مسمى “الدفاع عن النفس”. إن التذرع بالدفاع عن النفس يبعد الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي عن دائرة الضوء ويركز على أي ردود فعل ضده. إن ذلك يجزئ الأحداث الحالية إلى “تصعيدات” منفصلة لا سياق لها يجب على “إسرائيل” “التعامل” معها. يتم ذلك لتجنب ذكر أي شيء في سياقه التاريخي الصحيح.
إذا قيّدت نطاق القصة وبدأتها بصواريخ حماس، فإنهم يصبحون فجأة المعتدين. وما يتم إخفاؤه هو تاريخ الاستعمار الاستيطاني بأكمله – الذي يسبق أي فصيل مقاومة فلسطيني موجود حاليا – وكيف تشكل قطاع غزة، ولماذا يوجد الملايين من اللاجئين، ولماذا هم محرومون من الحق في العودة إلى وطنهم أو التمتع بحقوق الإنسان الأساسية. حتى اختصار “حماس” العربي يترجم إلى “حركة المقاومة الإسلامية”، الذي يدل على أنها تكونت كردة فعل لمقاومة شيء ما. وتجريد القصة من هذه المعلومات يغير الاستنتاجات بالكامل.
إن هذا الأسلوب الخطابي يطبق حتى على أكثر السيناريوهات سخافة، مثل تأطير هجوم على مصر في سنة 1967 على أنه “ضربة استباقية دفاعية”. مهما فعلت “إسرائيل” فإنها تظل دائما تدعي أنها تفعل ذلك لأسباب دفاعية بحتة.
غياب الحق المعنوي
تبدو الوضعية برمتها سخيفة عندما تفكر فيها. ما الذي يعنيه دفاع المحتل عن نفسه ضد السكان الأصليين الذين يستعمِرهم؟ ما الذي يعنيه وجود كيان لا يمكن له أن يستمر إلا من خلال إنكار وجود الفلسطينيين الذي يدافع عن نفسه ضدهم؟
استنادُا إلى تعريفه، يحتاج الاستعمار الاستيطاني إلى العنف والقمع الثابت الذي يطال كل جانب من حياة المستعمَر. لا يوجد فترات “هدوء” أو “تطبيع” بالنسبة للفلسطينيين. لنأخذ مثلا المواطن الفلسطيني العادي الذي يعيش في غزة. إنه لاجئ تعرضت عائلته للتطهير العرقي ببساطة لأنهم ليسوا يهودًا، وبالتالي يمثلون “تهديدًا ديمغرافيا” على الإثنوقراطية الإسرائيلية. إن هذا الشخص لديه حق محاولة واستعادة حقوقه المسلوبة بأي وسيلة ممكنة. ولا يمكن اعتبار ذلك تحت أي ظرف أو سيناريو محتمل عدوانا يمكن أن يبرر “الدفاع عن النفس”. فضلا عن ذلك، تريد “إسرائيل” أن تحتفظ بالحق في احتلال الفلسطينيين وتعذيبهم ومحاصرتهم وتطهيرهم عرقيا وسرقة أرضهم ومنازلهم وأرزاقهم، والمطالبة بالدفاع عن نفسها ضد أي رد فعل تجاه هذا الاضطهاد.
من المحيّر أن لدينا أشخاصا يطالبون بأن المستعمَر والشعب المحتمل عسكريا يجب أن يضمن سلامة من يحتله ويعذبه. إن ذلك أقرب إلى قاطع طرق يطالب بالدفاع عن نفسه عندما تقاومه الضحية. إن هذا ليس فريدا بالنسبة للصهيونية وإسرائيل، فلطالما سعت القوى الاستعمارية عبر التاريخ لتأطير التوسّع الاستعماري العنصري على أنه “دفاع عن النفس” أو “حماية الذات”.
لقد عارض توماس جيفرسون إلغاء العبودية مستعملا نفس المنطق، حيث استشهد بمبدأ “حماية الذات” كسبب لاستمرار الممارسات الوحشية. تخيل الجرأة في المجادلة بأن سادة العبيد كانوا يحمون أنفسهم ضد من يستعبدونهم. بطبيعة الحال، إن الهدف من هذا المثال ليس المساواة بين الاضطهاد الذي تعرض له ضحايا العبودية في جزيرة السلاحف وضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وإنما تسليط الضوء على الطرق المثيرة للسخرية التي تستخدمها القوى الرجعية باستمرار لتأطير عدوانها باعتباره دفاعا عن النفس.
غياب الحق القانوني
لإسرائيل تاريخ طويل في المطالبة بـ “حقوقها” المشكوك فيها. لعل أكثر حق مشين هو “الحق في الوجود” الذي لا أساس له في القانون الدولي، وليس لديه معنى تطبيقي أيضا. ومن غير المبالغة القول إن ادعاءات “إسرائيل” القانونية لطالما سارت جنبا إلى جنب مع إخفاء أجندتها الاستعمارية التوسعية.
بعد كل شيء، لا تزال “إسرائيل” تدعي أن الضفة الغربية وقطاع غزة ليست أراضي محتلة حتى بوجود قواتها والحصار والمستوطنات والقواعد العسكرية؛ وحجتها في ذلك أنه ليوجد احتلال فإن الأرض يجب أن تكون جزءا من دولة ذات سيادة، وهو ما لا ينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن نفس الحجة مستخدمة لتبرير أن اتفاقيات جنيف والقانون الدولي والإنساني بشكل عام لا تنطبق على الفلسطينيين. بالطبع لم تكن هذه الحجة مقبولة أبدا من قبل المجتمع الدولي، الذي لا يزال يصر على أن هذه المناطق محتلة.
باختصار، يجب أن يتم التعامل مع الادعاءات القانونية لإسرائيل باحتراز كبير. مع ذلك، في ظل الرفض طويل الأمد لما يعتبر بالمجتمع الدولي إدانة ومحاسبة إسرائيل، سئم الفلسطينيون من القانون الدولي. لقد تجاهلت “إسرائيل” والمجتمع الدولي عقودًا من الآراء والقرارات الأممية، حتى مع انتهاكات “إسرائيل” الصارخة. لو طُبق القانون الدولي لما مرّ “حق” “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها مرور الكرام.
لعل العيب الرئيسي الذي يشوب مزاعم “إسرائيل” هو أنها ببساطة لا تستطيع اشتقاق حق قانوني من فعل غير قانوني. فما هي الأفعال غير القانونية موضع السؤال؟
عموما، إن أفعال “إسرائيل” غير قانونية في المقام الأول، وبالتالي لا يمكنها المطالبة بأي حق في “الدفاع” عنها. ويجدر الإشارة إلى أن المقاومة أو التمرد هنا لا تعني بالضرورة مقاومة “سلمية” أو “شعبية” وإنما تتضمن كل الوسائل الممكنة.
ورد في القرار عدد 37/43 أن الأمم المتحدة: “تؤكد من جديد شرعية نضال الشعوب من أجل الاستقلال، والسلامة الإقليمية، والوحدة الوطنية والتحرر من الهيمنة الاستعمارية والأجنبية والاحتلال الأجنبي بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الكفاح المسلح”.
فضلا عن ذلك: “تؤكد من جديد الحق المطلق للشعب الناميبي والشعب الفلسطيني وجميع الشعوب التي ترزح تحت الهيمنة الأجنبية والاستعمارية في تقرير المصير، والاستقلال الوطني، والسلامة الإقليمية، والوحدة الوطنية والسيادة دون تدخل”.
حتى لو لم يكرّس القانون الدولي هذا الحق، فإنه للفلسطينيين الحق المعنوي لتخليص أنفسهم من الهيمنة والاضطهاد. ومهما كان نوع المقاومة الذي يختاره الفلسطينيون، فإنهم يصنفون في جميع الأحوال بأنهم معتدون إرهابيون. عندما استولت “إسرائيل” على الأراضي الخاصة الفلسطينية لتوسيع الاستيطان غير القانوني، ردّ الفلسطينيون على ذلك بإقامة مخيم صغير يسمى “باب الشمس” كنوع من الاحتجاج السلمي.
بطبيعة الحال، اتهمت “إسرائيل” الفلسطينيين بممارسة “إرهاب البناء” وتم الاعتداء عليهم بالضرب والقمع والاعتقال والإخلاء من الأرض. عندما بدأ الفلسطينيون العمل على رفع قضية ضد “إسرائيل” أمام المحكمة الجنائية الدولية، تم اتهامهم بممارسة “الإرهاب القانوني”. وتوصف إضرابات الجوع التي ينفذها الأسرى الفلسطينيون بأنها “إرهاب السجون”.
لا يمكن اعتبار أي مما سبق إرهابًا من وجهة نظر القانون الدولي، ولكن “إسرائيل” تستخدم هذا التوصيف لشيطنة ونبذ أي نوع من المقاومة الفلسطينية مهما كان نوعه، بينما تدعي في نفس الوقت أن القمع الوحشي الذي تمارسه دفاعٌ عن النفس. لابد من وجود مقاومة ثابتة ومبدئية ضد ادعاء “إسرائيل” المثير للسخرية “الدفاع عن نفسها”. إن الفلسطينيين هم الذين يدافعون عن أنفسهم ضد المحتل الاستيطاني والعدوان الإثني، وهم الذين يحتاجون دون أدنى شك للدعم أكثر من دولة تمتلك أسلحة نووية ومدعومة من قبل القوى الإمبريالية.