برنارد لويس، المستشرق الأميركي، ونبي المحافظين الجدد، رأى أن الاعتلال التاريخي، والاعتلال الفلسفي، لدى العرب، لا يعود الى أميركا ولا الى «اسرائيل». انه السقوط العبثي في سوسيولوجيا الغيب، وهو الوجه الآخر لسوسيولوجيا العدم. من هنا كان الانتقال المستحيل من المفهوم القبلي للدولة (وللمجتمع) الى المفهوم الديناميكي للدولة (وللمجتمع). هذا ما يجعل دولاً (ومجتمعات) بكاملها تقبع في قعر الزمن.

لويس كان يعلق على النتائج الكارثية لحرب حزيران 1967. السبب لم يكن في الفارق النوعي للسلاح، وانما في الفارق النوعي في مستوى التفاعل مع لعبة القرن. هكذا يبقى المكان المفضل للعرب وراء دونكيشوت، وهو يحارب طواحين الهواء.

هذا ما جعلنا نستعيد ما قاله لنا روبرت فيسك (وكان بيننا). الاحتلال الاسرائيلي للضفة والقطاع ينتهي عندما ينتهي الاحتلال الاسرائيلي لتلة الكابيتول. واقعاً… الاحتلال الاسرائيلي للولايات المتحدة.

لن نذهب في التفاؤل الى حد القول أن ثمة تغييراً جوهرياً في النظرة الأميركية الى الصراع في الشرق الأوسط. لكن ما نلاحظه، يومياً، في كلام المعلقين والباحثين، وحتى في كلام كبار المسؤولين، يشي بأن الغارات على غزة، وحيث كانت الأبراج تتهاوى بالقنابل الفراغية، أحدثت هزة داخل العقل الأميركي الأحادي البعد حيال منطقتنا.

لسنا أمام دونالد ترامب، بالشخصية الضحلة، والزبائنية، والنرجسية. نحن أمام جون بايدن الذي يعتبر أنه آن الأوان لكي تدرك الولايات المتحدة أن القوة العسكرية، مهما كانت هائلة، لا يمكن أن تكون الحل، لا بل أن المغامرات الأميركية في فيتنام، وفي أفغانستان، وحتى في العراق ولبنان، انتهت على نحو تراجيدي. بعد قوافل التوابيت، الانسحاب تحت جنح الظلام…

ما يستشف من التعليقات الأخيرة أن الأميركيين باتوا على قناعة بأن «السياسات الاسرائيلية» التي تقوم على مبدأ «القوة التي لا تقهر»، قد آلت الى الفشل المروع ان في لبنان أو في غزة.

اللافت، في هذا السياق، أن المفكر الأميركي (اليهودي) ناعوم تشومسكي ردد كلام برنارد لويس حول سوسيولوجيا الغيب، ولكن في حديثه عن «الاسرائيليين» الذين يفترض ألا يبقوا ضحايا المقاربة القبلية للتوراة.

هنا يهوه… الجنرال الذي يقود المعارك، بل واله القبيلة كما كان يرى فيه العبرانيون القدامى قبل أن يحثهم عرب الجزيرة على تحويله الى اله كوني (فيليب حتي).

تابعنا تصريحات جو بايدن، وأنطوني بلينكن، ولويد أوستن، ناهيك عن مستشار الأمن القومي جيك سوليفان. التشديد على تزويد «اسرائيل» باكثر الأسلحة تطوراً لحماية نفسها (من نفسها)، مع الايحاء المباشر، وغير المباشر، بأن المفاوضات، لا القاذفات ولا القبب الحديدية، هي الحل اذ لا أحد في الدنيا يستطيع التأكيد بأن ميزان القوى سيبقى على حاله الى ما لا نهاية.

في هذه الحال، كيف يمكن لأقلية مجهرية، نسبياً، أن تواجه ذلك الأوقيانوس البشري؟

الادارة الأميركية في حالة من التعبئة الاستراتيجية القصوى لاعداد مسرح العمليات الذي سيكون على أرض أخرى. الباسيفيك أكثر تعقيداً، وأكثر خطورة بكثير. لا تريد أن تغرق في وحول الشرق الأوسط (لكأنها الوحول الأبدية). من هنا كان الانسحاب من أفغانستان، ومن هنا كانت المفاوضات مع ايران.

ألا يبدو أن قضية البيت الأبيض في منطقتنا احداث فجوة في البنية الاستراتيجية، وفي البنية «الايديولوجية الاسرائيلية»؟ الانتقال من منطق الدبابة الى منطق الحقيبة. ولتكن غزة المدخل الى آخر الحروب في الشرق الأوسط…

لا يؤثر في المشهد الوضع الهستيري لبنيامين نتنياهو وهو ينتقل من السلطة الى المعارضة. تماماً، مشهد دونالد ترامب وهو يكاد يفجر أميركا للبقاء في البيت الأبيض.

هل يمكننا الأخذ بالتعليقات القائلة ان الاسرائيليين، ومنذ ليلة الصواريخ في تل أبيب (لكأنها ليلة السكاكين الطويلة)، باتوا ينظرون الى قادتهم على أنهم الكذبة، الكذبة، الكذبة؟ اذا كانوا يتحدثون عن «ميثاق ابراهيم»، هذا الميثاق ينبغي أن يطبق على العلاقات مع الفلسطينيين بالدرجة الأولى لا مع الآخرين…