اندريه قصاص -لبنان24
أعلن وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان أن باريس قررت إدارة الأزمة في لبنان بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية وممارسة المزيد من الضغط، فيما أشار وزير الخارجية الاميركية أنتوني بلينكن إلى أن فرنسا والولايات المتحدة والمجتمع الدولي مستعدون لمساعدة لبنان، من دون أن يحدّد أي شروط كمساعدة اللبنانيين لأنفسهم مثلًا قبل أن يطلبوا مساعدة الآخرين لهم، مما يعني أن كلام لودريان وبلينكن جاء بمثابة رفع عتب ليس إلا، وهذا ما بدا واضحًا من خلال ما تسرّب عن مداولات القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسيل، حيث غاب الملف اللبناني، وفق مصادر ديبلوماسية عليمة، ولم يُدرج على جدول أعمالها الحافل بالملفات والقضايا الأوروبية والدولية.
وهذا الغياب، الذي حصل على الرغم من زيارة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل للبنان عشية قمة بروكسل، كان متوقعًا، ليس فقط بسبب إنشغال الأوروبيين بقضاياهم ومشاكلهم، وبسبب الترتيب الجديد للأولويات الخارجية الذي يضع الشرق الأوسط في أسفل اللائحة، إنما أيضًا لأسباب أخرى تتصل بالملف اللبناني وتطوراته وكيفية مقاربته ووجود عقبات عملية وموضوعية تحول دون وضعه على الطاولة الأوروبية، ويمكن اختصارها في النقاط التالية:
أولًا: حالة الإرتباك والتضعضع عند الفرنسيين الذين يقودون السياسة الأوروبية في لبنان ويلعبون دور المحرك والدافع فيها، وهم ما زالوا في صدد مراجعة سياستهم ومبادرتهم التي وصلت الى طريق مسدود، ويبحثون عن مقاربة جديدة للوضع وعن خيارات بديلة. ولم يقرر الفرنسيون بعد ما إذا كانوا سيعتمدون خيار فرض عقوبات على المسؤولين اللبنايين في لبنان. وليس واضحًا بعد إذا كانوا قد أداروا ظهرهم لموضوع الحكومة وتحّولوا كليا الى الرهان على الإنتخابات النيابية. ولكن ما هو واضح أن ما يشغل بالهم هو الوضع الأمني الهش والوضع الإنساني المزري، وبالتالي، فإن تركيزهم منصب على دعم الجيش وإرسال مساعدات له.
ثانيًا: عدم الجهوزية الأوروبية، وعدم وجود ورقة مقترحات وتوصيات، أو “ورقة خيارات سياسية” لإشراك الأوروبيين في القضية اللبنانية. وكان مسؤول السياسة الخارجية بوريل عمل بناء على طلب فرنسي على “ورقة خيارات” ليكون الإتحاد الأوروبي مستعدًا لمساعدة لبنان الذي ينهار ويغرق. وبالفعل أعد بوريل هذه الورقة التي تضمنت حوافز وعقوبات، ولكنها لم تُبحث على مستوى المجلس الوزاري الأوروبي، وبدا أن الأمور متجهة الى مزيد من الإنتظار الذي سيبدو أنه سيطول لأن الموضوع يحتاج الى مزيد من الإجتماعات والمناقشات. كما تبيّن أن موضوع العقوبات الأوروبية تعترضه جملة عوائق وعقبات لعدم إستنادها الى “أساس قانوني” وحاجتها الى إجماع أوروبي، إضافة الى وجود تباين حتى داخل فرنسا في النظرة الى موضوع العقوبات وكيفية التعاطي معها.
ثالثًا: عدم وجود سياسة وخطط أميركية خاصة للبنان، خصوصا وأن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لم تتشكل ولم تتبلور بعد، وما زالت تتصف بالإرتباك وعدم الوضوح، خصوصا مع وجود ميل أميركي للتوجه شرقا، كأولوية في التركيز على المواجهة مع الصين وروسيا، ولإعطاء الملف النووي الإيراني أولوية إقليمية، ولبنان ليس في منأى عن نتائج المرحلة الأميركية الإنتقالية، وليس موجودا في أولويات واشنطن وعلى جدول أعمالها لمنطقة الشرق الأوسط.
وإذا كانت الإدارة الأميركية معنية بعدم إنهيار الوضع اللبناني وتدعم المبادرة الفرنسية من هذه الخلفية، وهذا ما كشفته أمس السفيرة دوروثي شيا، فإنها من جهة لم تبلور أي رؤية لسياستها اللبنانية، ولا تأخذ على محمل الجد تلويح الفرنسيين بفرض عقوبات على معرقلي تشكيل الحكومة اللبنانية من جهة ثانية، ، وفي وقت لا يملك الإتحاد الأوروبي أدوات التأثير في ظل عدم رغبة واشنطن في بلورة استراتيجية جديدة خاصة بلبنان، حيث لا تزال غير مكترثة بما يجري هنا. ولم تقرر واشنطن بعد في تقييمها لتطورات الأزمة اللبناية ما إذا كانت “الفوضى المرتقبة” على الساحة اللبنانية مع إكتمال حلقات الإنهيار ستؤدي الى سيطرة “حزب الله” كونه الأقوى والأكثر تنظيمًا وتماسكًا، أم ستؤدي الى إشغاله وإنهاكه في دوامة الأزمات ومستنقع الصراعات الداخلية، ما يجعله أكثر ليونة وأكثر إستعدادا للتنازل في موضوع ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. من هنا سادت أجواء سلبية في الإجتماعات الأوروبية في بروكسل، بعدما تبلغ الإتحاد الأوروبي عدم وجود أي نية أميركية في الوقت الراهن لتقديم مساعدات لأي حكومة لبنانية واستثناء الجيش اللبناني، وذلك كوسيلة ضغط على طهران من البوابة اللبنانية، وبانتظار تبلور صيغة التفاهمات الجديدة التي تنسجها واشنطن في المنطقة.
وفي خلاصة القراءة السياسية لهذا المشهد يمكن القول أن لبنان لا يزال موضوعًا في غرفة العناية الفائقة، فلا هو متعافٍ كليًا ولا هو في مرحلة الموت السريري، بل سيبقى بين بين إلى أن يحين موعد التسويات الكبرى. وقد يطول الأمر. ويبقى السؤال: هل في إستطاعة اللبنانيين أن يصبروا على بلواهم أكثر مما صبروا حتى الآن؟